البئر ، رهان سينمائي جزائري ، في الأوسكار


البئر ،  رهان سينمائي جزائري ،  في الأوسكار

دمشق : نضال سعد الدين قوشحة .

منذ ما يقارب الأربعين عاما ، فعلها محمد الأخضر حامينا ، وفاز بالجائزة الأهم في سينما العالم وهي السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي . عن فيلمه الشهير وقائع سنوات الجمر ، الذي يتحدث عن ثورة التحرير الجزائرية ، وويلات الإحتلال الفرنسي حينذاك . مجددا ، يقدم لطفي البشوشي ، فيلم البئر ، الذي يتصدى لذات الفكرة ، بمنظور آخر ، راعى فيه البعد الإنساني ، أكثر من الإهتمام بالواقع العسكري ومآلاته . وها هو يصل به لقائمة التنافس في جائزة سينمائية عالمية هامة هي الأوسكار . في فيلم البئر ، حدث واحد طاغ على الفيلم ، هو الحصار الذي تفرضه قوات الإحتلال الفرنسي على سكان ضيعة نائية ، وتمنعهم من إستغلال بئر ماء ، مصورا ما يعانيه هؤلاء من جفاف يقتل الحيوانات والزروع ، ويصل تاليا للبشر . في هذا التناول ، لايقدم الفيلم ، مساحات كبيرة،للقتال ، ولا للعمليات الحربية التي عادة ماتقدمها الأفلام التي تتصدى للحروب والثورات ، فخيار المخرج (الفيلم ) كان بتقديم المآلات الإنسانية لهؤلاء المحاصرين الذين هم بغالبيتهم من النساء أو الأطفال . بينما ذهب الرجال للقتال في الجبهات أو هربوا من بطش قوات الإحتلال . حسنا فعل الفيلم بابتعاده عن الإسلوب الإعتيادي في تناول الأفلام الحربية ، كونه قدم عوالم أكثر جوانية و أكثر عمقا في أرواح هؤلاء المحاصرين ، خاصة في المشهد الختامي ، الذي يقدمهم كقرابين للحرية . في بنية الفيلم الروائية ، نقل الفيلم ، العديد من تفاصيل المكان جغرايا و حدثيا ، فهو أرخ للحظات قتل رهيبة تحدث في مكان منعزل صحرواوي قاحل . فكانت مواجع الأطفال ، الذين يتناوبون على شرب أقداح الماء ، وكذلك رغبة الشيوخ الكبار بالقيام بصلاة الإستسقاء ، والكشف عن جشع البعض في هذه الفجيعة بإحتكار الماء وعدم إعطائه للآخرين . وكذلك حالة التمرد الثوري التي تصاحب الفتى الأسير ، والتي تكلفه حياته ، فيرضى أن يموت على أن يكون أسيرا .

وطبعا ، تألق سيناريو الفيلم كان في المشهد الختامي ، الذي صور فيه وصول أهل القرية لقناعة تامة ، أن هذا الواقع لابد أن يكسر ، خاصة أن الناس قد بدأت تموت من العطش والجفاف . فيقرر هؤلاء تحدي الحصار ، والتوجه نحو البئر ، تحت نظر القناص الفرنسي ، الذي يطلق النار على الرجل الأول المتقدم ، ثم الثاني ، ثم المرأة التي كانت الثالثة ، ويترك النهاية مفتوحة عندما تتحرك كل المجموعة مرة واحدة متحدية رصاص القناص . في الصورة ، نقلنا المخرج لبيئة صحراوية ، يكاد يغيب فيها اللون الأخضر ، وهذا ما يجعل مهمة المخرج أكثر صعوبة ، في خلق كوادر جمالية تعينه في إيجاد معادل بصري جاذب . لكن خياره بالضرورة كان موظفا لمصلحة فكرة الفيلم الأعلى وهي الجفاف والعطش .

قدم البشوشي في الفيلم ، لغة سينمائية ، راقية ، تنسجم مع مقولات الفيلم ، وتبتعد عن الإستعراضية ، وعلى إمتداد دقائقه ، نسج بلغة بصرية موفقة الحكاية ، موظفا عناصر الديكور الحقيقية (بيوت منطقة صحراوية و تفاصيل قرية ) بشكل موثق . من اللقطة الأولى في الفيلم ، يضعنا بوشوشي ، بصدمة جمالية ، غريبة التكنيك ، حيث عمد إلى تنفيذ لقطة متحركة من اليسار لليمين أرضية وجهة النظر ، فالكاميرا تتحرك على السقف وتظهر سيدة وأطفالها في غرفة بائسة وهم في عمق كادر الصورة وأسفلها . هذه اللقطة الغريبة تضعنا فورا في جو الفيلم وقراءاته البصرية الموحية والمختلفة . أما المشهد الختامي ، فقد حفل بجمايات مشهدية و إنسانية هامة ، فلغة المقاومة تعني التحدي ، وهذه ما فعله أهل الضيعة الذين قرروا مواجهة نار المحتل بتقديم قرابين للحرية ، فخرج الجميع بمشهد قاس ، بطىء ، على خلفية موسيقة متوترة ، ولقطات مختلفة الأحجام تصور قلق و إصرار هؤلاء على كسر هذا الواقع . من خلال التركيز على عيون بعضهم تارة ورصد تفاصيل المكان تارة أخرى .

يتابع المشهد ، بقسوة مهيبة ، يسير الرجل الأول (الشيخ ) . فيطلق النار عليه من قناص فرنسي ، فيسقط أرضا ، فيسير الآخر فورا وراءه ، وما هي إلا لحظات ترقب وقلق حتى يرمى بالرصاص فيسقط ، فتندفع إمرأة للأمام ، تحاول أخرى إيقافها ، لكنها تصر على التقدم ، وكانها في موكب جنائزي ، وتكون الضحية الثالثة ، لذلك القناص . المفاجأة في المشهد تكون تماما في اللحظة التي يقرر فيها الجميع ، التحدي ، ويتحركون بإتجاه البئر ، مواجهين القناص الفرنسي ، الذي يقف قائده قريبا منه ، مصابا بالذهول نتيجة هذا التحرك الجماعي ، وينتهي الفيلم هنا ، في أجمل ما يمكن أن ينتهي عليه حدث كهذا ، فهو ترك النهاية مفتوحة على أكثر من إتجاه ، هل نجح القرويون بالوصول للماء ، أم أنهم قتلوا برصاص القناص . حصد الفيلم حتى الآن ، إحدى عشرة جائزة سينمائية ، وهو المرشح الرسمي للدولة الجزائرية إلى جائزة الإوسكار ، التي ستقام بعد أشهر .

بطاقة الفيلم :

إنتاج : الوكالة الجزائرية لإشعاع الثقافي والمركز الوطني للسينما والسمعي البصري . ومساهة وزارة الثقافة وشركة BL FILMS

قصة أصلية : مراد بوشوشي

سيناريو : محمد ياسين بن الحاج .

مدير تصوير : حازم برابح .

ديكور : عادل قاصر .

إخراج : لطفي بوشوشي .

تمثيل : ناديا قاسي ، لوران مورال ، زهير بوزرا ، ليلى وتستيان ، اورايس عاشور ، محمد آدار .

 







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية