سعاد زاهر
لم ألحظ دموعها إلا حين خرجنا من الفيلم.. ! زميلتنا سلوى الجالسة إلى جانبي انشغلت عنها طيلة الوقت مع زميلي الآخر الذي على ما يبدو أن الفيلم لم يدخل إلى عمق روحه، كما فعل لديها.. ما إن خرجنا كل منا كان متسائلا عن تأثير فيلم ريمون بطرس أطويل طريقنا أم يطول..
كان البعض يبتسم من النهاية التي يرفض فيها الأب مغادرة أبنائه بعد تردد قصير، فإذا بسلوى تفاجئنا بصوتها الحاني، لقد أبكاني الفيلم فأولادي جميعهم سافروا.. أردت أن أجيبها وأخوتي أيضا.. لكن دونما قصد تسرع البعض قائلين خرجوا من دائرة الخطر.. !
من منا لم تقتله تلك اللحظات التي اجتزنا بعضها.. بعد أن أدمت قلوبنا، حين كنا نعتقد أن أيا من أحبتنا على حافة الخطر.. خطر لايمكنك أن تحمي منه أحداً مهما حاولت.. وتتمنى لو أنه يغادر! ولكن حتى لو كانت مجرد بضعة كيلومترات كالتي تفصل دمشق عن بيروت..
ولكنها غربة من نوع حانق حين يكون بلدك مدمى، تكويه النار وتصفر فيه رياح الحرب غير عابئة بأحد.. ! صالة الكندي التي امتلأت منتصف الإسبوع الماضي بجمهور سينمائي.. تداخلت مشاعره وردود أفعاله.. ما بين المتأثر والضاحك.. في بعض الأحيان..
حتى أن بعضهم صرخ في الصالة الفيلم ليس كوميديا.. ! لا أعتقد أن السبب فقط، بساطة الحكاية، وبساطة تنفيذها.. ولكن كأن ريمون بطرس في فيلمه الذي أخرجه وكتب السيناريو له أيضا.... يريد أن يكسر حاجز التقمص.. تاركا الخيار أن ننساق معه أو التيقظ قليلا مع تلك التقطعات لنتأرجح بين الواقعي السينمائي.. يبدأ الفيلم بمشهد يظهر فيها مع فريقه وبطلي فيلمه تيسير ادريس وناهد الحلبي، في منزله الذي على ما يبدو أنه استعان به لتصوير المشاهد، تنتقل الكاميرا لتركز على الورود.. وكأنها تعلن بداية فيلم لاتتجاوز مدته الأربعين دقيقة.. والمبني على حكاية بسيطة ولكن سنشتم معه رائحة تلك الورود الدمشقية.. !
كانت تلك السيارة الصغيرة تئن تحت وطأة مشاعر أثقلها بها القادمون على متنها، الصبية الصغيرة القادمة مع شقيقها (هيا مرعشلي، عمر بطرس)، تريد أن تقفز فرحا، أو تكاد تطير نحو مياه ساحة الأمويين المنسكبة عبر نافورتها الشهيرة..
لتتعمد، ولاتحقق أمنيتها سوى في أحلامها.. ما أن وطئت قدماها دمشق حتى تجد ان كل شيء يعوق تفتحها..! أي عشق لمدن لم يعد بمقدورها أن تحتوي أبناءها وتعتني..؟ ومع ذلك يرفضون المغادرة، يحلمون بالصلاة على أرضها.. أي فيلم..
وأي كاميرا مهما كانت خبرتها بإمكانها ان تعرض كل هذا الدفق العاطفي.. لهذا لم يكن مستغربا أن نشعر ببرودة المشاعر، وببطء ايقاع الفيلم.. ! مجرد حكاية عائلة يتردد الاب بين ابقاء أولاده في حضنه، او تسفيرهم الى بيروت، هربا من جحيم لايطاق هنا.. ! وما بين الدخول الى دمشق ومحاولة الخروج منها ثانية تأتينا أحداث في منتهى البساطة..
مجموعة شباب يعشقون الحياة وهي تعشقهم، ولكن لاشيء يحميهم، فها هي صديقتهم أميمة قد اختطفت ولا يعرفون مصيرها.. ! حركة الكاميرا تقترب كثيرا من الوجوه الشابة وكأنها لاتضيع هي الاخرى أي فرصة لملاقاة وجوههم الحية النابضة بلون آخر للحياة، خائفة، متحسبة.. ربما، لكنها دائما تدهشك بالروح التي تملكها.. بعد مضي كل هذا الوقت من حربنا الكارثية.. الفيلم يظهر أنهم لايهزمون يتكاتفون معا، لايهم من اي طيف هم.. ما يجمعهم أقوى من ان تفرقه تلك التلوينات السياسية المخيبة لآمالهم..!