سينماه، حوارات معه، وسيناريوهان
تأليف: أندريه تاركوفسكي ترجمة وإعداد: باسل الخطيب
من منشورات سلسلة الفن السابع رقم (132)
في نهاية عام 1986م، كنت لا أزال أدرس الإخراج السينمائي في معهد السينما في موسكو، عندما تلقيت دعوة مع مجموعة من الطلاب الأجانب الذين يدرسون في المعهد نفسه، للسفر إلى لينغراد وعرض أفلامنا القصيرة في كل من دار الصداقة واستوديو ليفيلم. في لينغراد قدمت فيلماً روائياً قصيراً بعنوان "أمنية" والفيلم يروي مأساة عجوز فلسطينية شهدت بأم عينها مذبحة دير ياسين، وكيف بقيت صور هذه المذبحة الرهيبة جاثمة على ذاكرتها، وتحول حياتها إلى جحيم من الذكريات المعذبة التي لا تنسى. بعد انتهاء العرض اقتربت مني سيدة شقراء بثياب رصينة وهنأتني، وأبدت رأيها بالفيلم قائلة": لقد أعجبني فيلمك... إن فيه شيئاً من عناصر تاركوفسكي خلال سنوات الدراسة في معهد السينما، كنت قد شاهدت فيلماً واحداً لاندريه تاركوفسكي، وهو فيلمه الروائي الأول "طفولة إيفان" وقد رأيت فيه فيلماً خاصاً جداً مليء بالمشاعر مشحوناً بالعواطف والآلام الإنسانية الصادقة، ومتميزاً عن كل الأفلام السوفييتية الأخرى، أما أفلامه اللاحقة "أندريه روبلوف" و "سو ليارس" و "المرآة" و "ستارلكر"، وهي الأفلام التي أخرجها الاتحاد السوفييتي، وكان الطلاب السوفييت يلجؤون إلى تقديم طلبات رسمية حتى يسمح لهم الذهاب إلى منطقة محرمة تقع خارج موسكو وتدعى "الأعمدة البيضاء" حيث يوجد أرشيف سينمائي هائل يضم كل الأفلام التي يمكن أن تخطر بالبال، وتشاهد أفلام تاركو فسكي، بالإضافة إلى العديد من الأفلام الممنوعة من العرض بشكل علني. لكنني عندما شاهدت أفلام تاركو فسكي جميعها أدركت ماذا كانت تقصد السيدة من لينغراد وربما أدركت ماكانت تعنيه بعناصر تاركو فسكي. إنها الأمطار التي تتساقط في غرف مغلقة. إنها رؤية الإنسان لأعماق عالمه الداخلي من خلال النظرة إلى المرآة عدت إلى موسكو في أمسية التاسع والعشرين من كانون الأول عام 1986م وكانت العاصمة الروسية تستعد لاستقبال العام الجديد، وكانت شوارعها مزدانة بالأضواء الملونة التي تتراقص انعكاساتها على صفحة الثلج الأبيض المتوهجة، وكان الجميع يتبادلون التهاني والأمنيات الطيبة وفي اليوم التالي ذهبت إلى معهد السينما، فتحت الباب، عبرت الممر وفجأة رأيت أمامي على واجهة المدخل إعلاناً مكتوباً بالخط الأسود العريض يشير إلى وفاة المخرج اندريه تاركو فسكي، يوم الأمس في فرنسا. لقد مات وحيداً بعد أن أنهكه السرطان، في بلاد غريبة عنه، بعيداً عن أرض وطنه الذي أحبه وأخلص له حتى النهاية. وربما يمكننا القول بأنه قد مات أيضاً بسبب مرض آخر لم يقوى على تحمله، مرض يدعى الحنين، الحنين إلى الوطن. وفي موسكو، كان المسؤولون المباشرون عن عملية التسمم الطويلة الأمد التي تعرض لها تاركو فسكي طيلة حياته الإبداعية، يرفعون أقداح الفودكا، احتفالاً بالعام الجديد. وعملية التسمم هذه بدأت بعد النجاح الكبير الذي حققه فيم "طفولة إيفان" وكان تاركو فسكي أول من أشار إليها في رسالته الموجهة إلى ممثل لجنة الدولة للسينمائي ألكسي رومانوف، في نهاية عام 1966م، هذه الرسالة هي نتيجة تأملات عميقة حول وضعّي كفنان، وحول الألم العميق التي تثيره حملات معادية ضدي وضد فيلم "أندريه روبلوف"، إن هذه الحملات من خلال هجومها الشرير وغير المبدئي لا تمثل بالنسبة إليّ أكثر من عملية تسميم، مجرد عملية تسميم، بدأت مع ظهور فيلمي الأول "طفولة إيفان" وهو الفيلم الذي تم بتر النجاح الذي حققه لدى الجمهور السوفييتي بشكل واضح ومتعمد. عندما تقدم أندريه تاركو فسكي، الشاب اليافع، ضئيل الجسم، الذي غادر منذ فترة وجيزة مقاعد المدرسة، بأوراقه ليلتحق بالمعهد الموسيقي في موسكو، تمكن وبتفوق شديد من اجتياز جميع اختبارات القبول، وتابع دراسته في المعهد لمدة سنة، وكان الجميع يتوقع لهذا الموسيقي الموهوب مستقبلاً لامعاً، لكنه ترك دراسة الموسيقا فجأة واختفى من المعهد. وفي السنة التالية تقدم بأوراقه إلى معهد الفنون الجميلة وهناك أيضاً قبلوه وتوقعوا لهذا الرسام الموهوب مستقبلاً لامعاً لكنه لم يلبث أن ترك معهد الرسم بعد دراسة سنة كاملة فيه. ورحل اندريه إلى الشمال برفقة بعثة جيولوجية، ولم يعرف أحد من أقاربه سبب رحيله المفاجئ والهدف منه؟ وبعد عودته تعرف إلى بعض الأوساط المهتمة بالنشاط المسرحي، وسرعان ما تم إرساله مع زميل آخر، باعتبارهما ممثلين موهوبين إلى مدرسة المسرح الأكاديمية الفنية، فاجتازا امتحانات القبول بتفوق، ليصبح أحدهما ممثلاً فيما بعد، في حين لم يذهب أندريه إلى المدرسة، ولم يسمع محاضرة واحدة فيها. وفي أحد الأيام كتب مقالة نقدية حول أحد الأفلام. مضت بضعة أسابيع ورن جرس الهاتف في بيت الشاعر أرسني تاركوفسكي، والد أندريه، وكان المتحدث رستسلافيورينيف، الناقد والمؤرخ السينمائي المعروف، والذي أراد أن يهنئ صديقه الشاعر بقبول ابنه في معهد الموسيقا.. وكان رد أرسني تاركوفسكي" كان الله في عونكم". دخل أندريه عالم السينما، دخله بعصبية وقلق، مثلما بقي يتذكره المخرج ميخائيل روم الذي كان مشرفاً على دراسته في المعهد، حيث قال عنه أثناء إحدى جلسات مناقشة فيلم "أندريه روبلوف" الذي كان ممنوعاً من العرض آنذاك: "أنا أعرف تاركوفسكي منذ سنوات طويلة، أعرفه منذ امتحانات القبول في معهد السينما، إنه إنسان عصبي، وكان يبدو قلقاً وجريحاً في أعماقه بحيث أمضينا وقتاً طويلاً في محاولة تهدئته. إنه حساس وسريع التأثر، إنه إنسان مبدع حقاً..". عندما يرحل الفنان الحقيقي عن عالمنا فإنه يترك أعمالاً فنياً رائعة وذكرى تثير في أغلب الأحيان مشاعر الحزن والألم، ويترك أيضاً حلماً منشوداً. ولعل تقديم (هاملت) للسينما كان حلم تاركوفسكي المنشود، فبعد أن قدم (الحنين) في إيطاليا و(القربان) في السويد، وأوبرا (بوريس غودونوف) في لندن، شرع يعمل بكل طاقته على التحضير لفيلم (هاملت)، مع معرفته المسبقة بأن المرض الخبيث قد انتشر ببشاعة في جسده ولم يترك له سوى أشهر وأيام معدودة.
فهرس
- غوفمان - موتسارت - دونا آنا - يوليا مارك - دكتور شبيير - السيد غوفمان "ميشا" - غريبل - خويشتوفرفيتيري - دانيال - غوفمان (2) - غيبل - يوليا مارك.