"بان" يحيي طفولة الصبي الطائر في بلاد الحلم



د. رياض عصمت

"بان" هو فيلم الأطفال بامتياز للعام 2015، لأنه يعيد رواية حكاية ج. م. باري الشهيرة "بيتر بان" عبر رؤية جديدة ونضرة، إذ يبدأ القصة المبتكرة قبل أحداث الحكاية المعروفة انطلاقاً من ولادة بيتر بان كثمرة حب بين جني وإنسانة، بحيث تضطر أمه لتركه يربى في دار أيتام قبل أن يكتشف سر الميدالية المعلقة على عنقه، والتي ترمز إلى أصله وفصله، وقدرته على الطيران. لا يتضمن فيلم "بان" (2015) شخصية الصبية وندي، راوية الحكايات وأشقائها. حتى القرصان في الفيلم لم يقضم التمساح العملاق ذراعه بعد، ولم يستبدلها بشنكل. ليس هناك ساعة تتكتك لتخيفه من مصيره الأسود، والأطفال الهاربون لم يصلوا بعد إلى مملكة نيفرلاند السحرية. لكن الأهم من ذلك أن بيتر بان لا يتعلم التحليق حتى أواخر الفيلم. "بان" (2015)، في الواقع، قريب وبعيد عن القصة الأصلية في آن معاً. إنه فيلم أشبه ما يكون بالحلم، خاصة إذا حضره المشاهد بتقنية 3 دي. أخرج الفيلم المخرج البريطاني القدير جو رايت، وهو المعروف بتنوع أعماله في أكثر من طراز، متراوحاً بين كلاسيكيات أدبية مثل "آنا كارنينا" لتولستوي و"كبرياء وتحامل" لجين أوستن، وبين فيلم الحركة المشوق "هانا"، وبين الفيلم الإنساني/الحربي الضخم "التكفير". يضيف جو رايت هنا صفحة جديدة كلياً إلى تنوع إنتاجه، فهو يقدم فيلماً للأطفال بخيال سينمائي بصري مبهر.

    قمت بإحصاء عدد الأفلام التي أنتجت عن حكاية ج. م. باري "بيتر بان"، فوجدتها تناهز 14 عملاً، منها ثلاثة أفلام كارتون طويلة ومسلسل تلفزيوني واحد. بدأت أفلام "بيتر بان" بالظهور منذ عام 1924، واستمرت إلى عام 2014، منها ما أخلص للحكاية الأصلية، ومنها ما أتى مجرد اقتباس عن الأصل، مثل فيلم "هوك" من إخراج ستيفن سبيلبرغ، الذي لعب فيه روبن وليامز دور بان وداستن هوفمان دور القرصان هوك وجوليا روبرتس دور الجنية تينكربل. كذلك لا ننسى الفيلم الرائع عن مؤلف الحكاية ج. م. باري "العثور على نيفرلاند" من بطولة جوني ديب وكيت وينسليت. حكاية فيلم "بان" (2015) مستلهمة وليست مطابقة لحكاية "بيتر بان" الأصلية التي ابتدعها خيال ج. م. باري. يبدأ الفيلم من أم تهرع وسط الضباب لتترك طفلها الصغير على باب ميتم (لعبت دورها آماندا سيفريد.) سرعان ما ينتقل بنا الفيلم إلى طفولة بيتر في دار الأيتام تلك، وتعرضه ورفاقه إلى إذلال واضطهاد المديرة القاسية بشكل يذكرنا برواية تشارلز ديكنز "أوليفر"، وبفيلم "آني" المقتبس عن الميوزيكال المسرحي الشهير. في انعطافة مفاجئة، يكتشف بيتر (لعب دوره الطفل الموهوب ليفي ميلر،) وصديقه المقرب أن مديرة الميتم تتيح للقراصنة اختطاف الأطفال من أسرة نومهم إلى سفينة تحلق في الفضاء، فينجو الصديق في حين يتم اختطاف بيتر. من هنا، تبدأ مغامرة  تحبس الأنفاس في بلاد نيفرلاند، تظهر فيها شخصيات متباينة غريبة وسط أجواء عجيبة تفوق الخيال، من القرصان ذي اللحية السوداء (لعب دوره النجم هيو جاكمان،) إلى المواطنة الهندية المسماة "النمرة ليلي" (لعب دورها الممثلة اللامعة روني مارا،) إلى شاب مغامر يدعى هوك، كان معتقلاً في المناجم التابعة للقرصان، لكنه يفر ويساعد بيتر بان والنمرة ليلي في التصدي للقراصنة الأشرار، وفي إدراك هويته الحقيقية وإمكانياته الخارقة على التحليق، إلى أن يحلق في النهاية مثل سوبرمان، ينقذ صديقيه، ويتصدى لزعيم القراصنة الذي نشعر أن هزيمته النكراء مؤشر إلى أن التمساح العملاق سيلتهم يده لتبدأ حكاية "بيتر بان" المألوفة التي نعرفها. في نهاية الفيلم، يعود بيتر لينقذ أصدقاءه الأيتام من مديرة الميتم الشريرة، ويأخذهم معه بعيداً إلى مملكة الأحلام نيفرلاند.

    من الواضح أن فيلم "بان" (2015) يعتمد اعتماداً شبه كلي على تقنية الصور المولدة عبر الكومبيوتر CGI، وهي السر في الديكورات الهائلة التي تتجاوز الخيال. من المؤكد أن تقنيي الفيلم الذين عملوا تحت إدارة جو رايت الإخراجية أبدعوا، وخاصةً جون ماثيسون وسيموس ماغارفي في التصوير. جدير بالذكر أن مخرج الفيلم اختلف مع المؤلف الموسيقي المخضرم الذي سبق أن عمل معه في فيلم "التكفير"، فاستبدله بآخر هو جون باول، مؤلف موسيقا فيلم الكارتون "كيف تدرب تنيناً". ورغم عدم معرفتنا بالموسيقا التي وضعها الأول للفيلم، فإن مما لا شك فيه أن موسيقا الثاني جاءت أروع من رائعة، ومناسبة جداً للطابع الخيالي والبصري المبهر الذي تمتع به الفيلم. لكن السؤال الجدير بالبحث عن إجابة له هو: لماذا لم يحظ فيلم "بان" (2015) بأكثر من 6.1 كعلامة تقدير؟ أعتقد أن هناك سببين، الأول منهما هو السيناريو الذي ألفه جيسون فوكس. فبالرغم من كون السيناريو صنف في عام 2013 على أنه أفضل سيناريو لم يتم إنتاجه بعد، إلا أنه سيناريو طفولي التركيب، حافل بمفاجآت من العيار الثقيل دون مبرر منطقي ودرامي. على سبيل المثال، ما السر في هوس بيتر بأم لم يرها في حياته، خاصة بعد أن يعرف أنها رحلت عن عالمنا؟ ما هو الدافع المقنع وراء سلوك القرصان الشرير، الذي يتصرف كشخصية كارتونية أكثر منه كبشر من لحم ودم؟ من هو البطل الشاب هوك، المتفرد بين الأطفال المخطوفين؟ ولماذا سمي بهذا الاسم الذي يشير إلى القرصان أبو شنكل في الحكاية الأصلية؟ أما السبب الثاني لمحدودية النجاح فيكمن في اختيار المخرج جو رايت شكل "الغروتسك" المبالغ به مقابل الابتعاد عن الواقعية كلياً، بحيث قدم فيلماً خيالياً يصلح للأطفال حصراً، وليس للكبار. لذلك، يبقى المشاهد مشدوهاً أمام روعة تصوير الفيلم وحيله التقنية وموسيقاه البديعة، لكنه ما أن يخرج منه حتى يبدأ بنسيانه. بالتالي، تيقى متعة الفيلم وقتية وعابرة، لا تصمد في الذاكرة طويلاً، ولا تخلف في النفس تأثيراً عاطفياً قوياً. لعل التعويض الوحيد عن ذلك التطرف في تحري الإبهار التقني جاء في روعة تمثيل بعض أبطال الفيلم، وبالأخص الطفل الموهوب ليفي ميلر، الذي ظل وجهه الوسيم يطفح بالتعابير والأحاسيس طيلة أدائه للدور المحوري في الفيلم، منذ طفولته البائسة في الميتم إلى أن آمن بقدرته الخفية، وحلق بمهارة لينقذ أحبته من الهلاك. رغم الانتقاد لاختيار ممثلة بيضاء، لمعت روني مارا في أدائها لدور النمرة ليلي، التي تخوض معارك قتالية تحبس الأنفاس، وهي الممثلة التي سبق أن تألقت في أفلام جادة مثل "الفتاة ذات وشم التنين" و"تأثيرات جانبية". لعب هيو جاكمان دوراً خاصاً وغريباً ضمن مسيرته الفنية، متقمصاً دور القرصان الشرير ذي الباروكة، وإن لم يضف للشخصية الكثير من اللمسات الإبداعية التي عرفناه بها في "وولفرين" و"البؤساء"، رغم أن ذاك كان ذلك متاحاً وممكناً. فيلم "بان" (2015) ضخم ومسلٍ، لكن صانعيه شاؤوا أن يحصروه في سينما الأطفال.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية