وفيق يوسف منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما(131) من أين جاء هذا التوق للسينما؟ ما الذي دفع ابن القرية الجولانية المحتلة "عين قنية" النازح إلى دمشق، والذي عانى مع عائلته وبقية النازحين، آلام النزوح وانقطاع الجذور، وويلاتهما، ما الذي دفعه إلى التعلق بذلك الشريط السحري الذي يحيله إلى عالم السحر والافتتان؟ هل أن مرارة الواقع وآلامه المتكاثرة، ما جعلا الطفل يهرب إلى عالم خيالي مشبع بالبهجة والألوان؟ وما الذي جعل سينماه، مربوطة بذلك الخيط الرفيع الذي يقود إلى شجن الروح وأحزانها؟ ثمة مفردات بعينها تقودنا إلى تفكيك عالم غسان شميط السينمائي: الجولان – القرية المحتلة – النزوح- الفقر – مرارة الانتظار – معاناة الأهالي على ضفتي الحدود... وباختصار يمكن القول أن شميط بدأ رحلته الإبداعية من معاناة أهله النازحين من الجولان إلى ضواحي دمشق الفقيرة، وانتهى إلى التقاط معاناة الإنسان في العموم، وذلك ما نلحظه في فيلمه القصير (ورد وشوك) الذي يرصد معاناة الطاعنين في السن، الذين هجرهم أحبتهم بعد أن ألقوا بهم في غياهب دور المسنين، لينتظروا الموت بذلك البطء القاتل، وحيدين ومهجورين!. عن مجمل هذه التجربة، عن الرؤى والأحلام، عن الواقع والمرارة، عن ظروف الدراسة في الخارج، عن رؤيته السينمائية لتجربته، ولما حققه حتى الآن، عن تقييمه لدور المؤسسة العامة للسينما التي أنتجت له أعماله. عن كل ذلك كان هذا الحوار المطول مع غسان شميط: تشكل الطفولة منبعاً هاماً للرؤى والأحلام والذكريات، وتمثل مفتاحاً رئيسياً لفهم كينونتنا، ما الذي تتذكره عن تلك القرية الصغيرة "عين قنية" الرازحة الآن تحت الاحتلال؟ على الرغم من مغادرتي القرية باكراً، وعدم رؤيتي لها ثانية حتى اليوم، إلا أن الحديث عنها، أو استعادة صور الطفولة فيها، أو التطرق ولو من قبل الغير، يمتلك مذاقاً خاصاً لا أعرف كيف أفسره؟.... هل يعود السبب إلى خروجنا القسري منها؟ أم أن الخروج المبكر جعل الزمن يغربل ذكرياتي ليبقى منها المبهج فحسب، والذي يقودني دوماً إلى الحنين القاتل لها، إذ حتى الذكريات المرة أو الدرامية باتت تمتلك رونقاً خاصاً في ذهني! فتخيل!. بدأت إدراك الأشياء ورؤية ما يدور حولي في القرية، في بداية الستينيات من القرن العشرين، وكان والدي – رحمه الله – قد نجح في امتلاك أرض طيبة تقع على مرتفع جميل، خارج القرية. وقرر بناء منزل في هذا البستان الذي يطل على أربع دول؟!... منزل يشرف على أربع دول؟! هذا ظريف بالفعل؟ لا تستغرب ما أقول، فذلك الموقع النادر كان يشرف على كل السهول الممتدة من بلدتنا عين قينة إلى مدينة بانياس (في الجولان) إلى سهل الحولة، والجبال الممتدة من جنوب لبنان إلى خط الأفق في وسط فلسطين، ناهيك عن كون أرضنا تقع على السفح الجنوبي – الغربي لجبل الشيخ! فتخيل تلك الجغرافيا الساحرة! وذلك الموقع الفريد الذي اختاره والدي ليبتني لنا منزلاً فيه؟! نعرف أن قريتك حدودية، وأن تلك المرحلة شهدت معارك عسكرية طاحنة، بين الجيشين السوري والإسرائيلي، قبل 1967 ومجيء الاحتلال، ما الذي تذكره عن ذلك؟ منطقتنا لم نعرف الهدوء أبداً، كانت المناوشات والمعارك العسكرية الصغيرة شبه يومية، وقد اعتدنا ونحن صغار على متابعة هذه المعارك ونحن نجلس في أرض الدار. ما أذكره جيداً أننا لم نكن نخاف، وأن صياحنا كان يعلو وهتافنا يشتد كلما نجحت قواتنا أو طائراتنا في رد اعتداء إسرائيلي، أو ضرب أحد مواقع العدو. وبالمقابل كم كانت خيبتنا كبيرة حينما كنا نصيح بكل تلك الإثارة الطفولية، ثم يتضح أن المعركة لم تنته لصالحنا، أو أن الطائرات التي كنا نظنها سورية انقضت على تل العزيزيات المجاور! وما إن تبتعد حتى يتصاعد لهيب النيران الذي يكاد يطاول عنان السماء. ولا أدري لماذا كان لون ذلك اللهيب أخضر؟! وعموماً، كنا نغافل الأهل ونخرج من المنزل لمتابعة تلك المناوشات بالعين المجردة. وكان الأهل يصيحون بنا طالبين منا العودة الاختباء دوماً!. خرجنا بعد عدوان 1967، كنت في العاشرة، وعلى الرغم من صغر سني، إلا أن تلك الحقبة كانت من أغنى مراحل حياتي، كانت حقبة ثرية ومميزة، وربما الحنين إلى الطفولة الهادئة هو ما جعلها كذلك في نظري، وإذا أردت أن أكون صريحاً معك فإني أحلم بالعودة إلى تلك القرية التي خرجت منها قبل أربعين عاماً، وأحلم بها كما كانت، قرية نائية وبدائية، بلا كهرباء، ولا ماء، تعيش على الفطرة والعفوية والصدق في التعامل بين البشر، وهي صفات أعتقد أنه لم يبق لها مكان في هذا العالم، لقد ورثتها عن أهلي وبيئتي تلك، وحتى اليوم، رغم كل تجاربي في الحياة، وأسفاري الكثيرة، لم أستطع التخلص منها!. هل بدأت علاقتك آنذاك بالعالم السحري الفريد الذي يدعي السينما؟ هل كنت تترد على صالات السينما في دمشق بانتظام؟ أم بدأ ذلك في طفولتك المبكرة؟ وهل ثمة أفلام بعينها أثرت فيك؟ في طفولتي المبكرة لم يكن بالإمكان الحديث عن سينما... والأفلام الوحيدة التي شاهدتها في القرية كانت أفلاماً تعليمية تقدمها وزارة الزراعة لإرشاد الفلاحين إلى العناية بأشجار الزيتون والتفاح أو مكافحة الحشرات الضارة!.... وكان يتم جمع الأهالي في ساحة القرية حيث تسلط الأضواء على جدار ما ليعرض الفيلم بأكثر الطرق بدائية... كان ذلك يتم صيفاً، حيث يكون الفلاحون مرهقين من تعب النهار الطويل في مواسم الحصاد أو جني الفواكه. في دمشق شاهدت أول فيلم حقيقي في حياتي... ولا زلت أذكر جيداً الفيلم والصالة والمناسبة، كان ذلك في صالة الحمراء... وكانت المناسبة أن والدي تلقى بطاقة دعوة مجانية من وزارة الثقافة، كان فيلماً روسياً ويحمل عنوان (الحرس الفتي). خرجت مذهولاً من البطولات الخارقة لشخصياته! كانت تلك بداية الطريق الطويل. بعدها رحنا نشاهد جميع الأفلام التي تعرض في صالات دمشق، لم نكن نميز بالطبع بين سينما تجارية وسينما هادفة، بل كنا نتلقف كل ما نشاهده في طريقنا، وتعرفنا آنذاك على مختلف صالات دمشق: عائدة والكندي، والزهراء والسفراء والدنيا... أما أكثر ما أتذكره، الآن فهو خيبتنا الشديدة حينما كنا نفشل في حضور فيلم ما بسبب تلك اللافتة الصغيرة الموضوعة أمام شباك التذاكر، والتي تقول (لم يبق محلات)! كنا نهرع آنذاك راكضين من صالة إلى أخرى... هل تصدق أن تلك اللوحة اللعينة كانت تواجهنا عند جميع قاطعي التذاكر في الصالات؟! وأحياناً كانت اللافتة تقول (لم يبق محلات لجميع الحفلات)؟! كانت تلك الفترة الذهبية للسينما في بلادنا، وربما في العالم أجمع... وخلال تلك الفترة شاهدت عدداً كبيراً من الأفلام، ومنها الأفلام السورية الجادة التي بدأت تفرض حضورها آنذاك مثل (الفهد) و (الأبطال يولدون مرتين) و (المخدوعون) و (سائق الشاحنة) وغيرها. في هذه الحال كيف اختمرت فكرة دراسة الإخراج السينمائي في ذهنك؟ كيف بدأ هذا الحلم يراودك؟ أرغب في أن أكون صريحاً معك حتى النهاية، لا اعتقد أنه يوجد شاب في مجتمعنا يمكن أن يخطط مستقبله بدقة منذ البداية، وحتى لو كان يعيش في مستوى مادي لائق، فكيف بشاب نازح ذاق مع عائلته مرارة الاقتلاع من الجذور؟ كان الحلم بالنسبة لأمثالي مدفوناً في قبر عميق، انهالت فوقه صبة بيتونية جامدة. بعد نيلي الشهادة الثانوية تسجلت في قسم الجغرافيا بجامعة دمشق، وهو فرع لا يستلزم دواماً إلزامياً، وهكذا بات بإمكاني البحث عن عمل لإعالة نفسي والتخفيف عن أعباء العائلة. وأخيراً حالفني الحظ بالعمل في منظمة الشبيبة، ولاح الأمل في الأفق حينما حصلت على منحة دراسية في الاتحاد السوفييتي، وهنا انتعشت الأحلام المدفونة، وكان علي الاختيار بين اختصاصين: الإخراج السينمائي أو التلفزيوني! وهكذا فإن مسار حياتي كلها أكثر، فأنا مقتنع بأن هناك في بلدي آلاف المواهب التي تبقى مدفونة في التراب وتموت قبل أن تزهر وترى النور، لأن الحظ لم يحالفها ولم تجد من يقف بجانبها ويمسك بيدها. فهرس.... الإهداء.... يوميات التصوير.... غسان شميط: حوار في السينما والذاكرة والحياة.... ذاكرة الطفولة.... وجع الاقتلاع... المدرسة الأولى.... اللقاء مع شريكة العمر.... شيء ما يحترق... الطحين الأسود..... تجربة الأفلام القصيرة.... الهوية.... الهوية "سيناريو أدبي لفيلم روائي طويل"...... رؤية..... (فلاش باك)...... لقطات من فيلم الهوية.... لقطات من فيلم الطحين الأسود.... لقطات من فيلم شيء ما يحترق.....