د. رياض عصمت
كثر إنتاج أفلام الفضاء في العقد الثاني من الألفية الثالثة لسببٍ أو لآخر، وأخذت تتنافس في نيل الجوائز العالمية. نذكر من بينها "جاذبية" من بطولة ساندرا بولاك وجورج كلوني، و"حافة الغد" من بطولة توم كروز وإيميلي بلانت، و"إيليسيوم" من بطولة مات دامون وجودي فوستر، و"إنترستيلر" من بطولة ماثيو ماكوهني وآن هاثاوي. اللافت للنظر في فيلم "رجل المريخ" (2015) - أو "فلنعده إلى الوطن" – أن كاتب السيناريو درو غودارد تخلى عن مهمة إخراج الفيلم ليتحمس له ويتبناه المخرج البريطاني ذائع الصيت ريدلي سكوت، المشهور بأفلام ضخمة وناجحة مثل "المصارع"، "مملكة الجنة"، و"بروميثيوس"، على الرغم من أن أفلاماً أخرى لهذا المخرج غزير الإنتاج لم تحظ بالنجاح المأمول، ومنها فيلمه "الخروج – آلهة وملوك" (2014). اللافت للنظر أيضاً هو تنوع أعمال ريدلي سكوت، فعدا الأفلام شبه التاريخية التي ذكرنا – وقمتها فيلم "المصارع" (2000) من بطولة راسل كرو وخواكان فينكس، الذي نال خمس جوائز أوسكار - سبق أن تضمنت نجاحات ريدلي سكوت الباهرة فيلم الرعب "إيليان" (1979) من بطولة سيغورني ويفر، ثم فيلم الخيال العلمي "الراكض على الشفرة" (1982) من بطولة هاريسون فورد، ثم الفيلم الحربي "سقوط الصقر الأسود" (2001) من بطولة إيوان ماغريغر وإريك بانا. هذه المرة، يبدو أن ريدلي سكوت - البالغ من العمر 77 عاماً، مخرج 39 فيلماً ومنتج 148 فيلماً وكاتب سيناريو فيلمين - نفض الغبار عن موهبته الأصيلة المعتقة، وخاض تحدياً من نوعٍ جديد نسبياً عليه في فيلم خيال علمي جاد يدور عن مغامرة مثيرة لرائد فضاء نسي على المريخ، مستنداً إلى قصة ألفها آندي واير في كتاب، وأضفى عليها كاتب السيناريو درو غودارد مرجعيات لا تعوزها الدقة والتفاصيل المقنعة.
يلعب مات دامون شخصية (مارك واتني)، رائد فضاء نزل على سطح المريخ مع مجموعة من رفيقاته ورفاقه لأخذ عينات وإجراء اختبارات. لكنهم يواجهون هبوب عاصفة عنيفة تضطرهم إلى الفرار، بينما تصدم مارك واتني خلالها قطعة معدنية كبيرة، فيظن رفاقه أنه قد توفي، ويغادرون على سفينتهم الفضائية كوكب المريخ على عجل متجهين إلى الأرض في رحلة تستغرق شهوراً. يفاجأ قادة "ناسا" على الأرض بأن مارك واتني لم يمت، وأنه صحي من صدمته ليتواصل معهم وقد وجد نفسه وحيداً على كوكب المريخ. يقدر قادة "ناسا" أن الطعام الذي بقي لديه غير كافٍ على الإطلاق للمدة التي سيستغرقها إرسال سفينة فضائية لإنقاذه. جوهر القصة هو أن إرادة الإنسان وحبه للبقاء يصنعان المعجزات، إذ يستصلح مارك واتني التربة، يزرعها ويسقيها عبر اختراع بدائي ذكي لينبت بطاطا يقتات منها ليعيش، مضاعفاً مخزون البطاطا المتوفر لديه كي يكفيه أشهر عدة على أمل وصول نجدة. ييأس قادة "ناسا" من إنقاذ رائد الفضاء المنسي على المريخ، لأن زمن الرحلة من الأرض إلى المريخ يتجاوز بكثير ما لديه من غذاء. في تلك الأثناء، يعلم رفاقه الذين تخلوا عنه ظناً بأنه مات أن زميلهم ما زال على قيد الحياة، لكنه سيموت لا محالة إذا انتظر طويلاً سفينة قادمة من الأرض، لأن الرحلة ستستغرق أكثر مما هو متوفر لديه من الطعام على كوكب المريخ البور ذي التربة الحمراء الجافة. تطلب قائدتهم ميليسا (لعبت دورها جيسيكا تشستين) من زملائها التصويت على قرار العودة لإنقاذ زميلهم حتى ولو خالفوا أوامر القيادة العليا على الأرض، فيصوتون بالإجماع أن يفعلوا، لأن عودتهم من منتصف مسار العودة إلى الأرض هو الحل الوحيد لاختصار الزمن وإنقاذ رفيقهم من موت محتم. بالفعل، وسط مخاطر جمة لمغامرة غير مضمونة العواقب، ورغم الهزال الذي أصاب مارك واتني بسبب تقنينه للطعام، يتمكن هو من أن يطير من المريخ مسافة قصيرة بصاروخ ليلاقي قائدة السفينة الفضائية، فتمسك به وتنقذه في الفضاء ليعودا محلقين إلى السفينة وسط فرح وتهليل العلماء على الأرض، سواء في الولايات المتحدة أم في الصين.
فيلم "رجل المريخ" أو "لنعده إلى الوطن" (2015) فيلم بسيط الحبكة، يمتد زهاء ساعتين وثلث الساعة دون أن يداهم الملل المشاهد خلال ذلك الزمن الطويل، رغم أن الفيلم بلا شك يحتمل قدراً من الاختصار. يعود أحد أبرز أسباب الإمتاع إلى حسن توزيع الأدوار، إذ شارك الممثلون الكبار التالية أسماؤهم في دور علماء وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" على الأرض: جيف دانيالز، شيوتيل أيجيوفور وشون بين. أما على متن السفينة الفضائية المنقذة، فتصدرت التمثيل جيسيكا تشستين بأدائها الواثق والمقنع. أما نجم الفيلم ومحوره الرئيس فهو مات دامون، الذي بذل جهداً استثنائياً في هذا الدور، مصوراً مشاهده تحت قيادة المخرج ريدلي سكوت خلال خمسة أسابيع مستمرة، بحيث لم يلتق بباقي فريق التمثيل من زميلاته وزملائه إلا لدى إطلاق عرض الفيلم. كان مات دامون يرغب في القيام بريجيم بالغ القسوة ليخسر من وزنه كي يجسد دور رائد الفضاء بعد أن نال منه الجوع، لكن ريدلي سكوت رفض تلك الفكرة الجريئة، وقام باستخدام بديل عنه حرصاً منه على صحة الممثل وسلامته.
قام بتصوير الفيلم داريوز ولسكي، وبمونتاجه بييترو سكالا، وكلاهما سبق أن عمل مع ريدلي سكوت في "المصارع" أو في "بروميثيوس"، كما ألفَّ الموسيقا الفريدة للفيلم هاري غريغرسون-وليامز. جرى تصوير الفيلم في "وادي روم" في الأردن، الذي تشبه رماله الحمراء الجو المتخيل لكوكب المريخ. نال فيلم "رجل المريخ" تقييماً عالياً جداً من النقاد والجمهور بلغ 8.2 نقطة، مما يجعله يحل المرتبة الثانية بين أفلام الخيال العلمي الفضائية بعد فيلم "إنترستيلر" (2014).