د. رياض عصمت
لم يكن ليخطر على بال كاتب السيناريو الأمريكي الأكثر إثارة للجدل دالتون ترومبو أن فيلماً سينتج حاملاً اسمه وسيرته الذاتية في العام 2015. عاد اسم دالتون ترومبو للظهور بعد احتجاب قسري مع فيلم "سبارتاكوس" (1960)، رغم أنه سبق له أن حاز أوسكارين تحت اسمين مستعارين. "ترومبو" الكاتب صار موضوعاً للكتابة، وتصدى لرواية سيرته سينمائياً كاتب السيناريو جون ماكنمارا اقتباساً عن كتاب للمؤلف بروس كوك، بينما أخرج الفيلم جاي روش في أول فيلم له بعيداً عن الكوميديا. أما الدور المحوري فلعبه برايان كرانستون، الممثل القدير الذي اشتهر ببطولة المسلسل التلفزيوني "الانحراف للشر".
فيلم "ترومبو" (2015) ليس فيلم سيرة ذاتية تقليدي عن كاتب سيناريو مبدع واجه تحاملاً سياسياً حرمه من الكتابة باسمه الصريح ردحاً طويلاً من الزمن، بل هو أيضاً فيلم يؤرخ لحقبة زمنية بدأت عام 1947 واستمرت حتى عام 1975، وهي حقبة محاكمات "المكارثية" سيئة الذكر، التي طالت كثيراً من الأدباء والسينمائيين والمسرحيين بالاضطهاد تحت تهمة انتمائهم إلى الحزب الشيوعي، وبالتالي اتهامهم بالإسهام في أنشطة معادية لأمريكا وقيمها الديمقراطية. انتمى دالتون ترومبو فعلاً إلى الحزب الشيوعي الأمريكي عام 1942، لكنه لم يقم بأي فعل خطير يهدد الأمن، بل مارس كتابة السيناريو السينمائي لعديد من الشركات والنجوم، وفي مقدمتهم إدوارد جي. روبنسون. حوكم ترومبو وأدين لرفضة الإجابة على أسئلة لجنة تحقيق الكونغرس، التي اعتبرها مخلة بحقوقه كمواطن، فأهين وأودع السجن، ثم خرج بعد حين ليجد جميع الأبواب مقفلة في وجهه بوصفه "خائناً" لبلده. جابه ترومبو الاضطهاد بمراوغة ذكية اضطر لها، فصار يكتب السيناريوهات بغزارة تحت أسماء مستعارة من أجل أن يجني المال ويعيل أسرته ويحمي أفرادها من الحاجة. الطريف، أن اثنين من أفلامه البالغ عددها 69 فيلماً فازا بجائزتي أوسكار، وهما "إجازة في روما" (1954) و"الفتى الشجاع" (1957)، لكنه لم ينل صراحة هاتين الجائزتين حتى عامي 1975 و1993، بل كانت زوجته كليو من تسلم الأوسكار الثاني بعد وفاته بزمن نيابة عنه.
تدور أحداث الفيلم المشوق وراء كواليس هوليوود المضطرمة بالأحداث، حيث نرى ثلاثة نماذج من الناس: الأول يضم غلاة اليمينيين المتعصبين أمثال النجم جون وين (لعب دوره ديفيد جيمس إليوت،) والصحفية الموتورة هيدا هوبر (لعبت دورها هيلين ميرين،) وهما من المحرضين ضد كل يساري. الثاني يضم كتاب سيناريو مثل دالتون ترومبو ضمن عشرة أسماء ظهرت أسماؤهم على "القائمة السوداء"، وفرض السياسيون على هوليوود مقاطعتهم بالقوة. أما الثالث، فيضم أشخاصاً خنعوا أمام الاضطهاد الذي شنه أتباع السيناتور مكارثي وحاكموا بصورة غير دستورية أو مشروعة عديداً من كبار المبدعين، ومنهم تشارلي تشابلن، برتولت برشت، آرثر ميلر، إيليا كازان، والنجم السينمائي إدوارد جي. روبنسون – الذي يركز الفيلم على شخصيته، خاصة وأنه استجاب لضغط لجنة التحقيق وذكر أسماء رفاق شيوعيين ترددوا إلى بيته، معلناً براءته منهم. بالمقابل، هناك أشخاص شرفاء لا تنسى مواقفهم، في مقدمتهم زوجة ترومبو المخلصة كليو، (لعبت دورها باقتدار دايان لين،) والنجم كيرك دوغلاس (لعب دوره دين أوغرمان،) الذي تجرأ وأظهر اسم ترومبو ككاتب سيناريو "سبارتاكوس"، والمنتج فرانك كينغ، (لعب دوره جون غودمان،) والمخرج أوتو بيرنجر (لعب دوره كرلايستيان بيركل،) وابنة دالتون ترومبو الشابة نيكي، (لعبت دورها إيلي فاننغ) التي ساعدت والدها في محنته ووقفت إلى جانبه.
يتميز فيلم "ترومبو" بامتاعه وسلاسته، وهو يستخدم بعض لقطات تسجيلية حقيقية، سواء من فيلم "سبارتاكوس" من إخراج ستانلي كوبريك، أو لقطة لثناء الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي عليه، أو لقطات من فيلم "إجازة في روما" من بطولة غريغوري بيك وأودري هيبورن وإخراج ويليام وايلر. لكن الرائع هو تصوير بعض لقطات حديثة من الفيلم بالأسود والأبيض، ثم التحول إلى الألوان، بحيث أضفى المخرج جاي روش على فيلمه طابعاً تسجيلياً قوي الإقناع. الدقائق الأخيرة من الفيلم مؤثرة جداً عندما يرد الاعتبار إلى دالتون ترومبو، وينال التكريم من رابطة كتاب السيناريو، ويلقي خطاباً مليئاً بالحكمة والقيم النبيلة. من المرجح ترشيح الممثل القدير برايان كرانستون للمنافسة على أوسكار أفضل ممثل، فقد قدم دوراً حساساً جداً برهافة عالية، فترومبو يدخن ويشرب بشراهة في الفيلم، خاصة وأنه غدا بعد خروجه من السجن شخصاً صعب المزاج، يكتب وهو جالس لساعات طوال في بانيو الاستحمام، رافضاً أن يقاطعه أحدٌ حتى من أقرب أفراد اسرته. لكن قصة حياة هذه الشخصية الإشكالية المفعمة بالمعاناة والقهر والرفض قصة ملهمة حقاً عن كفاح إنسان لإعادة الاعتبار لنفسه وأسرته وأصدقائه، وتأقلم مع الواقع للوصول إلى قمة النجاح المستحقة من جديد بفضل موهبته الأصيلة. هناك أكثر من بعد إنساني وفكري عميق لفيلم "ترومبو" (2015)، فهو يصور صفحات مخزية من التاريخ الأمريكي الحديث إبان حقبة المحاكمات المكارثية، التي ألهمت آرثر ميلر مسرحيته "البوتقة" أو "ساحرات سالم" كإسقاط لمطاردة الساحرات في قرية نائية على حملة المكارثية المسعورة ضد حرية التعبير، والتي لفظت أنفاسها مع منتصف السبعينيات ليستعيد المبدعون مكانتهم، ويحلقوا من جديد في سماء الحرية.