في قلب البحر

الإصدار: العدد مئة و ثلاثون

في قلب البحر

 د. رياض عصمت

 
ليست هذه هي المرة الأولى التي تقارب فيها السينما رواية هرمان ملفيل الشهيرة "موبي ديك"، إذ سبق أن قاربتها عام 1956 في فيلم رائد ومميز أدائياً حمل العنوان نفسه، من إخراج جون هيوستون وبطولة غريغوري بك. ثم ظهرت رواية "موبي ديك" في عمل تلفزيوني لائق عام 1998، واقتبست بعدها في فيلم حديث استبدلت فيه سفينة الصيد الشراعية بغواصة متقدمة تقنياً، لكن الفيلم الذي أنتج عام 2010 باء بفشل ذريع. 
 
تميز فيلم "في قلب البحر" (2015) بعدة سمات. أولها تفرده في الاقتباس، إذ اعتمد على كتاب مؤلف يدعى ناثنيال فيلبريك، سعى إلى نبش أصل الحكاية الحقيقية التي ألهمت هرمان ملفيل (1819- 1891) روايته الشهيرة عن صيد الحيتان، والتي تعتبر من أبرز الملاحم في الأدب الأمريكي. ثانياً، تميز الفيلم بإخراج المخضرم رون هوارد، (مخرج "شيفرة دافنشي"، "ملائكة وشياطين"، "الرجل السندريللا"، "راش"، "عقل جميل" و"أبولو 13".)  ثالثاً، تميز الفيلم بالحيل التقنية المبهرة والمقنعة في آن معاً. رابعاً وأخيراً، تميز بتعددية أنماط الشخصيات.
 
يبدأ الفيلم بالأديب الشاب هرمان ملفيل وهو يزور عجوزاً منزوياً بنفسه عن العالم مع زوجته، ويعرض عليه مبلغاً كبيراً من المال كي يروي له ذكرياته عن غرق سفينة صيد حيتان اسمها "إسكس" كان على متنها عندما كان صبياً. يرفض العجوز ويطرده، لكن الزوجة تستوقفه لمعرفتها بمدى حاجتهما إلى المال الذي سيقدمه لقاء سماع القصة الحقيقية القديمة، وتقنع زوجها أن يروي للكاتب الشاب القصة. ينتقل بنا الفيلم إلى ذلك الزمن القديم حيث يقدم الفيلم بطليه الشابين، (جورج بولارد) قبطان السفينة "إسكس" المنحدر من عائلة أرستقراطية ثرية، و(أوين تشيس) ضابط السفينة الأول المتمتع بخبرة ومراس في صيد الحيتان يؤهلانه لتولي مهمة قبطان سفينة لولا هيمنة الأغنياء المراوغين على هذه التجارة. في الواقع، يقدم لنا الفيلم بمهارة درامية عالية عدداً من الشخصيات المتباينة من أفراد طاقم السفينة في الوقت الذي تأخذنا الحبكة فيه عبر المغامرة الخطرة التي يقودهم إليها قبطان السفينة الطموح دون خبرة. رغم طيب نواياه، نجده يعرضهم بقراراته المتهورة إلى تمزق أشرعتهم في خضم عاصفة عاتية، ثم إلى مواجهة مع حوت أبيض عملاق بعد فشلهم في صيده بحربة، فيدمر السفينة انتقاماً، ويلاحق قواربهم في رحلة الضياع وسط المحيط الباسيفيكي. هناك، في قلب البحر، يضطرون مكرهين لأكل بعضهم بعضهم من أجل البقاء، أحياناً بعد وفاة أحدهم، وأحياناً تضحية واختياراً. وأروع اللحظات هي عندما يسحب الباقون على قارب عيداناً ليقرروا من يجب أن يقتل ليأكله رفاقه، فإذا بالدور يأتي على القبطان. لكن قريبه الشاب لا يستطيع إطلاق المسدس عليه، بل يوجهه إلى صدغه وينتحر، مقدماً نفسه قرباناً كي يحيا رفاقه. ذلك هو السر الذي أخفاه العجوز توم نيكلسون عشرات السنين عن الناس، بمن فيهم زوجته، فقد اضطر وهو صبي إلى أكل لحم البشر من أجل البقاء وهو على متن أحد القوارب. أما المشهد الآخر الرائع في أواخر الفيلم، فهو عندما يدنو قاربان ناجيان أخيراً من البر، ويظهر الحوت الأبيض ليمر بينهما. يتهيأ بطل الفيلم أوين تشيس ليغرس حربته من جديد في الحوت العملاق، تلتقي عيناهما، فإذا به يحجم عن فعل ذلك. عندئذٍ فقط، يتركهم الحوت في حالهم، ويتوقف عن مهاجمتهم. كم عميق هو المغزى من وراء هذه اللقطة!!! في النهاية، بعد أن يصل الناجون بمعجزة إلى بر الأمان في تشيللي، ويعودون إلى ربوع الوطن، يأتي أصحاب الشركة الأثرياء ليطلبوا من الضابط الأول ألا يردد قصة وجود حوت أبيض جبار في المحيط كي لا يمتنع البحارة عن ركوب البحر سعياً وراء زيت الحيتان. يصر (تشيس) على قول الحقيقة حتى ولو أدت إلى بطالته. لكن المفاجأة تكون في أن قبطان السفينة نفسه – الذي كان في صراع معه طيلة المغامرة – يقف ليشهد بالحقيقة مؤيداً له، مثبتاً نبل معدنه. الحق يقال، إن هناك أبطالاً ثلاثة للفيلم: أوين تشيس، والقبطان، والحوت الأبيض.
 
كتب سيناريو الفيلم بمهارة تشارلز ليفيت بالتعاون مع ريك جافا وآماندا سيلفر اقتباساً لكتاب ناثنيال فيلبريك عن غرق سفينة صيد الحيتان "إسكس" في عام 1820 بسبب هجوم حوت أبيض عملاق، وهي الحادثة التي ألهمت هرمان ملفيل روايته "موبي ديك". جاء إخراج رون هوارد ليضفي عمقاً على الشخصيات وهي في خضم محنتها. لم يكتف بالإبهار التقني، بل ظل مخلصاً لفن الدراما. بالتالي، قدم الفيلم بشراً من لحم ودم، يتسامون أحياناً فوق البشر. ربما كانت الهنة الأكبر في الفيلم هي صعوبة فهم اللهجات المتباينة، ومن ثم إضاعة استيعاب بعض تفاصيل الحوار. بالتأكيد، رغم الأداء الواقعي للممثلين كافة، إلا أن الفيلم افتقر إلى مستوى أرفع من الأداء كان من شأنه أن يوصله إلى ذروة لا تنسى. يشمل هذا كريس هامسوورث في دور الضابط الأول للسفينة، وهو صاحب حضور قوي وأخاذ دون أن يتجاوز مستواه المألوف في أفلام أخرى. كما يتضمن بنجامين وولكر في دور القبطان، حيث استطاع مقاربته أيضاً بشكل جيد نسبياً، لكن صعوبة الدور كانت تتطلب خبرة أكبر ربما توفرت في المرشحين الآخرين المنافسين بنديكت كامبرباتش أو توم هيدلستون. بالمقابل، أجاد مؤدو الأدوار المساندة بشكل أكبر، ومنهم سيليان مورفي الذي أدى دور (جوي) برهافة وإتقان، وبن ويشو في دور الأديب هرمان ملفيل، وبرندان غليسون في تقمصه القوي للغاية لشخصية العجوز توم نيكلسون. كذلك أبدع توم هولاند في تجسيد دوره كصبي، وفرانك ديلين في دور البحار الشاب قريب القبطان. كان الأداء النسائي محدوداً في الفيلم، لكن ميشيل فيرلي تألقت بحضور أخاذ في دور زوجة توم نيكلسون العجوز، وهي الأم الشهيرة في مسلسل "لعبة العروش". كذلك، أجادت شارلوت رايلي في دور زوجة (تشيس) رغم قلة مشاهدها. قام بتصوير فيلم "في قلب البحر" أنتوني دود مانتل، وبمونتاجه دانيال ب. هانلي ومايك هيل، ووضع الموسيقا له روك بانوس. نال الفيلم تقييماً قدره 7.2 درجة، وهو تقييم عادل فعلاً. 
 
 






مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية