عـــــدســــات الخـــيـــــال مقالات في السينما


 عـــــدســــات الخـــيـــــال   مقالات في السينما

عدنان مدانات
منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما (129)
مضى على أول عرض عام للأفلام السينمائية في العالم قرن وعدة أعوام، ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من كل التطورات التي طرأت على تقنيات السينما لا تزال السينما تؤكد في كل مرحلة جديدة من تطورها أنها فن الوهم بالواقع، مثلها في ذلك مثل الفلسفة التي أوهمت الناس عبر التاريخ ومن خلال مدارسها المختلفة أنها الطريق لفهم الواقع والوصول إلى الحقيقة. وهكذا، ونتيجة لكل التطورات التقنية المتسارعة التي رافقت مسيرة السينما منذ قرن وبضع سنوات من الزمن، فإن إبقاء السينما على خاصيتها الأساسية التي اتسمت بها منذ ولادتها، وهي أنها فن الإيهام بالواقع، يتطلب منها السعي نحو الصدق الفني أولاً وأخراً.
كانت مسألة معرفة الحقيقة وفهم الواقع والتعبير عنه بصدق هاجساً يسيطر على الناس وخاصة المفكرين والمبدعين منهم منذ بداية التاريخ، حيث كانت الكلمة المنطوقة في البدء أول وسيلة استخدمها العقل البشري ليعكس من خلالها صورة الواقع المحيط به وليعبر من خلالها عن حقائق الوجود. في مرحلة لاحقة، فإن الإنسان، وإذ ازدادت معارفه وخبراته ومهاراته وانصهر أكثر فأكثر داخل مجتمعات متآلفة، اكتشف وسائل جديدة للتعبير عن واقعه وعن هواجسه المعرفية، فمارس فن الرسم وفن النحت بحيث صار هذان النوعان التجسيديان من الفن وسيلتين أساسيتين عيانيتين لتصوير وعكس الواقع وللتعبير عن الحقيقة على نحو لم يكن متاحاً للكلمة بطبيعتها الذهنية التجريدية.
بعد أن انتقل الإنسان إلى مرحلة جديدة من التطور وارتقى أكثر فأكثر في وعيه للواقع وبالتزامن مع تشكل ورسوخ المجتمعات المدنية طور الإنسان وسيلة فنية جديدة لعكس الواقع وما وراء الواقع والتعبير عن حقيقة الوجود، وذلك من خلال فن المسرح، الذي يجسد بشكل حي مباشر، بواسطة الممثلين، الواقع والخيال في آن لاغياً الفوارق بينهما، أدى ظهور المسرح بما يتضمنه من حكايات تتصارع فيها الإرادات وفق قوانين الدراما الصارمة، إلى تشكل جمهور جمعي يتفاعل مع ما يعرض عليه بعاطفة واحدة، يعايش الأحداث التي تعرض عليه وكأنها أحداث الآن في الواقع ويتأثر بمصائر الشخصيات التي يجسدها الممثلون أمامه ويتفاعل معها إلى درجة التماهي.
وهكذا، بفضل المسرح ساد الاعتقاد لفترة طويلة من الزمن بأن الدراما هي الفن الأكثر مصداقية في التعبير عن الواقع وحقائق الوجود بالمقارنة مع الفنون السابقة على المسرح.
في  أواخر القرن التاسع عشر، جرت من ثمة، تجارب متعددة من قبل علماء في أوروبا وأمريكا تهدف إلى اختراع تقنيات جديدة تجعل الصورة الفوتوغرافية الثابتة تتحرك، وهكذا تم التوصل إلى اختراع ما أطلق عليه آنذاك تسمية "السينماتوغرافيا"، أي الصور المتحركة، التي أعلن عن ولادتها وتم تقديمها للجمهور لأول مرة عبر أول عرض سينمائي عام في العالم أقيم في صالة مقهى في باريس في الثامن والعشرين شهر كانون الأول عام 1986.
بقيت السينما لفترة ثلاثة عقود من الزمن بعد ولادتها صامتة والأشخاص في الأفلام لا ينطقون ولا تسمع أصوات الطبيعة. ومع ذلك لم تثر هذه المسألة في البداية أيه اعتراضات، فالناس الذين انبهروا بالصور المتحركة وأحبوها واستسلموا لسحر حركتها، وثقوا بها وصدقوها. اعتاد الناس على مشاهد الأفلام الصامتة وعلى رؤية الممثلين يتحركون بدون ضجيج وسط طبيعة وبيئة صامتة ويتخاطبون ويتحاورون فيما بينهم بدون صوت، يرى المشاهدون شفاهم تتحرك ولكنهم لا يسمعونها تنطق. وعلى ما في هذا الأمر من غرابة وعدم واقعية، فإنه لم يكن يثير استغراب أحد، لأن الناس كانوا لا يزالون منبهرين بقدرة السينما على عرض الحركة، فلم يبالوا بغياب الصوت ولم يسمحوا لذلك الغياب أن يؤثر سلباً على قناعتهم بواقعية الصور المتحركة التي يشاهدون متجاهلين حقيقة أنهم أمام وهم بالواقع وليس أمام صورة حقيقية له. وهكذا كان الناس يكتفون بصورة واقع ناقصة ويتعاملون معها على أنها كاملة.
بعد أن ظهرت السينما الناطقة استفاق الناس من غفلتهم وتبين لهم أنهم كانوا على ضلال في تصديقهم لواقعية السينما وأنهم تعرضوا لخديعة كبرى، لكن ثقتهم بالسينما وبصدقها الواقعي اكتسبت مبرراً جديداً لأنهم صاروا يسمعون أصوات الممثلين وأصوات الطبيعة الحية، فازداد بالتالي تأثرهم بالسينما وتعمق إيمانهم بها وصدقوا بأنها بعد أن كانت تقدم نصف حقيقة صور الواقع صارت تقدمها لهم كاملة، صارت تعرض عليهم العالم الحقيقي كما يعرفونه من خبرتهم الواقعية، أي صوتا وصورة. بعد ذلك انفتحت صفحة جديدة في العقد المتواطئ عليه بين السينما والناس، زادت فيه السينما بموجبها من قدرتها على الإيهام بالواقع والحقيقة.
أدى اكتشاف تقنيات السينما الملونة إلى تجديد ثقة الناس بالسينما وتأكيد قناعتهم وليس هذا فقط ما يمنحها القدرة على الإيهام بالواقع والحقيقة، فثمة خاصية أخرى تختص بها السينما، خاصية كانت موجودة إلى حد ما في المسرح، ولكن ليس بذات القدر من التأثير التي هي عليه في السينما، وهي خاصية جعل المشاهدين يشعرون أنهم يتفرجون على الحاضر، فهم يشعرون أن الأحداث تجري أمامهم على الشاشة الآن، تستوي في ذلك الأفلام التي تروي قصة معاصرة زمنياً أو تروي قصة تعود وقائعها إلى التاريخ أو تبحر في المستقبل. فالسينما توهم الناس بالزمن الحاضر مثلما هي توهمهم بالواقع سواء بسواء.
لعبت التقنيات السينمائية دوراً أساسياً في خدمة خيال السينمائيين وتجسيده من خلال صور مقنعة ومؤثرة ومشوقة. ولم يقتصر هذا الدور بطبيعة الحال على صنع الأفلام التي تنتمي إلى الخيال العلمي والأفلام الغرائبية والأفلام الكوميدية، بل شمل جميع الأنواع السينمائية، سواء منها الأنواع التي تعتمد على الحركة المثيرة أو الأنواع التي تعتمد المنهج الواقعي وتتطرق إلى مواضيع تستمد موادها من قضايا الواقع والمجتمع الحقيقة.
بشكل عام، يمكن تقسيم الخيال السينمائي إلى نوعين، أحدهما يسعى وراء إثارة الدهشة، خاصة في أفلام الحركة والإثارة بمختلف أنواعها، وثانيهما يهدف إلى الوصول إلى العكس المقنع بواقعيته، قدر الإمكان، لصور الواقع، وقد أدى التطور المتسارع والمذهل للتقنيات السينمائية إلى تنامي توجهات السينمائيين، خاصة العاملين منهم في حقل السينما الجماهيرية الترفيهية نحو زيادة جرعات الخيال ولكن من خلال مزج الدهشة بالمصداقية الواقعية. ويترادف هذا التطور مع التطور المقابل عند مشاهدي الأفلام الذي تزايدت خبراتهم في المشاهدة بعد أن انكشفت أمامهم أسرار السينما مع الزمن واعتادوا عليها، وبالتالي فإن ما كان مثيراً لخيالهم في مرحلة تطور سينمائية ما، صار في المرحلة التالية أقل إثارة أو حتى فقد إثارته لأن لعبته باتت مكشوفة لهم، فكان لابد للسينمائيين، ليس فقط أن يحددوا وأن يطوروا من جرعات الخيال والإثارة بل أن يقنعوا المشاهدين بمصداقية ما يشاهدون وأن يتفاعلوا معه بما يؤدي إلى أن تكون تجربة معايشة أحداث الفيلم مطابقة أو قريبة من تجربة العيش في الواقع، أي أن تستعيد السينما ذات العلاقة مع المشاهدين التي نشأت عند ولادة السينما ومنذ اللقاء الأول بين المشاهدين وفيلم "وصول القطار إلى المحطة" وأن تعيد المشاهدين إلى حالة السذاجة العاطفية على الأقل، والتي تلبستهم وهم يشاهدون الصور تتحرك، وذلك على الرغم كل ما اكتسبوه من خبرات مشاهدة ومن معارف كشفت لهم أسرار السينما.
الخيال شرط من شروط الإبداع السينمائي حتى في أكثر توجهاته نحو العكس الصادق لصور الواقع الراهن، أي ذات المنهج التسجيلي، مع ذلك يجب الإقرار بحقيقة أن العلاقة بين الواقع والخيال في السينما تتضمن احتمالات متعددة، فالخيال قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً، قد يكون مريضاً غير أخلاقي أو العكس، قد يكون شريراً وقد يكون خيراً، قد يكون الخيال موهوباً مبدعاً وقد يكون عديم الموهبة. وفي هذا يكمن الفرق بين السينما الراقية فنياً وفكرياً، والتي لا تزال علاقتها تقتصر على النخبة من المشاهدين، وبين السينما التجارية الترفيهية.
سارت الأفلام السينمائية منذ اختراع السينما في اتجاهين اثنين لكل منهما له منهجه الخاص، أحدهما تسجيلي (وثائقي/ تتم من خلاله إعادة تنظيم لصور الواقع الحقيقة) وثانيهما روائي (تخييلي/ الواقع فيه غير حقيقي ومعاد خلقه). وفي العشرينات من القرن العشرين احتدم الصراع بين هذين النوعين أو المنهجين في الأفلام السينمائية. مناصرو السينما التسجيلية كانوا يعتبرون أن جوهر السينما وصدقها يكمنان فقط في إمكاناتها التسجيلية، وكل ما عدا ذلك، أي القصص المتخيلة والممثلون والديكورات، وبكلمة واحدة السينما الروائية، مجرد تزييف وخيانة لجوهر السينما الأصلي، أي قدرتها على عكس صورة الواقع الحقيقية عكساً مباشراً وهي بالتالي تزييف وخيانة للواقع نفسه. بالمقابل، لم يكن مناصرو السينما الروائية ينكرون أو يرفضوا الخاصية التسجيلية للسينما، ولكنهم كانوا يعتبرون أن الكاميرا السينمائية (وبخاصة في فترة السينما الصامتة) لا تستطيع أن تعكس سوى المظاهر الخارجية للواقع وأن الكاميرا التسجيلية عاجزة عن تصوير لواعج النفس البشرية والعوالم الداخلية للناس.


فهرس....

الفصل الأول....
-     السينما بين الواقع والخيال والصدق والفني .....

الفصل الثاني....
-    السينما التسجيلية....
-    السينما التسجيلية كمنهج جمالي....
-    الموضوعية في السينما التسجيلية....
-    تداخل الروائي والتسجيلي في السينما....
-    الممثل في الفيلم التسجيلي....
-    الكاميرا الخفية....
-    المصور التسجيلي والكاميرا....
-    شهادات الشهود....
-    آفاق السينما التسجيلية في عصر التلفزيون...
-    السينما التسجيلية في زمن الأخبار....
-    وثائق سينمائية على أنغام الفيديو كليب....
-    مذكرات فيلم ضائع.... تحليل تجربة شخصية....
-    علامات في تاريخ السينما التسجيلية...

الفصل الثالث....
-    السينما والتقنيات الحديثة....
-    آفاق تكنولوجيا السينما وروح الفن....
-    شيزوفرينيا التكنولوجيا السينمائية.....
-    تكنولوجيا السينما والإبهار...
-    السينما في عصر المؤثرات البصرية....

الفصل الرابع.....
-    الفيديو الرقمي والسينما...
-    هذا ما جناه الفيديو على السينما....
-    السينما والفيديو: محترفون وهواة وواقع جديد....
-    السينما التليفونية....
-    السينما العربين بين ماضي السينما ومستقبل الفيديو...
-    السينما المستقلة في العالم العربي....
الفصل الخامس....
-    السينما والشعر. قراءة في ثلاث مجموعات شعرية...
-    عن السينما والشعر... مقاربة أولى....
-    عن السينما والشعر والشاعر حسن....
-    يكتب الشعر وعينه على السينما. إبراهيم نصر الله في ديوان "مرايا الملائكة"....

الفصل السادس....
-    السينما والحداثة....

 







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية