العائد من الموت

الإصدار: العدد مائة وواحد و ثلاثون

العائد من الموت

د. رياض عصمت

    لا توجد في اللغة كلمة تصف فيلم المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس ايناريتو "العائد من الموت" (2015) سوى كلمة: مذهل. اقتبس الكاتب مارك ل. سميث مع المخرج ايناريتو سيناريو الفيلم عن كتاب مايكل بونك الذي تناول مغامرة جامع الفراء هيو غلاس في العام 1823 من أجل البقاء، حين أصيب إصابات شبه مميتة من دب شرس، ثم تخلى عنه بعض رفاقه، وتركوه يكافح من أجل البقاء وسط ثلوج طبيعة قاسية، قاطعاً مائتي ميل كي يصل إلى العالم المتحضر. ربما لا تبدو القصة للوهلة الأولى صالحة لفيلم يستغرق عرضه ساعتين وسبع وثلاثين دقيقة، لكن براعة المخرج وتقنيات الطاقم الفني العالية وروعة التمثيل في الفيلم يجعل الزمن يمر سريعاً بينما يتابع المشاهد القصة بشغف لاهث الأنفاس، متشبثاً بمقعده من شدة الإثارة.

    يهرب مجموعة من صيادي الفراء هاربين من مذبحة تقدم عليها قبيلة عنيفة من الهنود الحمر. خلال فرارهم، يصطدم زعيم لهم يدعى (هيو غلاس) في الغابة بدب ضخم يعمل فيه مخالبه وأنيابه، لكنه يتمكن من قتله بسكين وهو في الرمق الأخير. يعثر رفاقه عليه مثخناً بالجراح مع جثة الدب الصريع، ويحاولون نقله خلال هربهم من الهنود المطاردين إلى أن تواجههم جبال زلقة وصعبة التسلق تحول دونهم ودون تلك المهمة. هكذا، خشية من أن يسبب نقله إعاقة لهم تسبب لحاق مطارديهم بهم، يخصص قائدهم مكافأة لثلاثة أشخاص كي يحرسوا الجريح ويعتنوا به ريثما يتماثل للشفاء. يتطوع ابنه بالتبني عن رغبة، وينضم إليه شاب آخر شهم، مغريين رجلاً قوياً يدعى (فيتزجيرالد) بالتبرع بأجريهما كي ينضم إلى فريق حراسة الجريح. لكن ما أن يمضي زمن قصير على مغادرة الباقين، حتى يحنث ذلك الرجل الخبيث بعهده ويحاول خنق الجريح، ثم لا يتورع عن قتل ابنه طعناً أمام عينيه عندما يحاول أن يمنعه عن مسعاه الشرير، ويخدع الشاب الآخر ويجبره على القبول بدفن الجريح حياً في قبر أعده له، ويلوذ معه بالفرار.  يبذل (هيو غلاس) المستحيل كي يزحف ناجياً من قبره، ويبدأ رحلة العذاب وسط تلك القفار النائية المغطاة بالثلوج، مقتاتاً بالأعشاب والأسماك، ومشاركاً الضواري أكل جثة ثور وهندي تائه التهام فريسة أخرى، وينقذ أسيرة هندية من براثن مرتزق فرنسي يغتصبها، ويسرق حصاناً ليهرب من مطارديه، ثم ما يلبث أن يهوي معه في هوة سحيقة، فيخرج أحشاء الحصان ويدس جسمه في هيكله الدامي كي ينجو من برد عاصفة ثلجية عاتية.  أخيراً، ينجح هيو غلاس في اجتياز مسافة مائتي ميل ويصل إلى حيث يحتمي جماعته في قلعة، فيبتهجون بنجاة أحد أشجع قادتهم. قبل أن يتعافى هيو غلاس من ندوب جراحه، يصمم أن يرافق قائد الجماعة مطارداً الرجل الذي خانه وغدر به، قتل ابنه وحاول دفنه حياً، ثم قبض مكافأة لقاء حراسته. يتمكن فيتزجيرالد من قنص القائد، لكن هيو غلاس يوقعه في خدعة ويجرحه برصاصة، ثم يطارده ويشتبك معه في معركة عنيفة بالأسلحة البيضاء، حتى يتمكن أخيراً من التغلب عليه. لكنه قبل أن يجهز عليه انتقاماً لابنه، يرى كوكبة من الهنود المطاردين على الضفة الأخرى من النهر، فيدفعه إليهم عبر المياه، ليتولوا مهمة حز رقبته، لكنهم يمرون بخيولهم دون أن يمسوا هيو غلاس بأذى لكونه أنقذ بشهامة ابنة زعيمهم التي كانت مخطوفة من الفرنسيين.

    سبق أن نال أليخاندرو غونزاليس ايناريتو أوسكار أفضل مخرج وأفضل سيناريو وأفضل فيلم للعام 2014 عن فيلمه "الرجل الطائر – فائدة الجهل غير المتوقعة"، كما أخرج قبله فيلماً لقي التقدير بعنوان "بابل" (2006). يعتبر ايناريتو أحد أبرز المخرجين السينمائيين المعاصرين، بحيث أحيط فيلمه "العائد من الموت" (2015) بهالة من الدعاية قبيل إطلاقه، وتم ترشيحه قبل العرض الرسمي لعدد من جوائز "غولدن غلوب". إنه مخرج يتميز بحرفيته التقنية العالية مع طاقم فني لطالما وثق به وشاركه النجاحات، ومنهم مدير التصوير إيمانويل لوبيزكي، والمونتير ستيفن ميريون. بعد أن كاد ايناريتو يقدم على تصوير فيلمه بكاميرات 70 ملم الكلاسيكية، اختار مع طاقمه أن يصور الفيلم بكاميرا ديجيتال حديثة جداً لصعوبة التصوير في ظروف الطبيعة القاسية، وهي كاميرا ذات دقة عالية استخدمها لأول مرة. الهدف من ذلك هو إضفاء مزيد من الواقعية على الفيلم، ضاعفها استخدام مدير التصوير للإضاءة الطبيعية دون بروجكتورات طيلة مراحل تصوير الفيلم، واختيار المخرج ايناريتو أن يصور مشاهد الفيلم بالتسلسل، على نقيض الغالبية العظمى من الأفلام، ففعل ذلك خلال 80 يوم تصوير امتدت زهاء 9 أشهر، واضطر خلالها بسبب تغير الطقس إلى نقل التصوير من كندا إلى الأرجنتين. الميزة الأخرى الهامة لهذا المخرج المكسيكي المبدع هي حسن قيادته للممثلين، إذ سبق أن قدم كل من مايكل كيتون وإدوارد نورتون في "الرجل الطائر" تمثيلاً خارقاً، وها هو ذا ليوناردو ديكابريو وتوم هاردي يقدمان أداء ممتازاً، وأغلب الظن أن ليوناردو ديكابريو سيكون منافساً قوياً جداً على الأوسكار الذي فاته من قبل لسنوات طويلة، رغم استحقاقه له بجدارة عن دوريه في "ذئب وول ستريت" و"غاتسبي العظيم". قال ديكابريو إن هذا الدور تطلب منه جهداً فاق جميع أدواره قاطبة، كما تذمر توم هاردي من خشية التعرض لأذى جسدي. ليس في الأمر مبالغة، فالمخرج شديد التطلب من ممثليه، ويحاول دائماً أن يستخلص منهم أقصى ما يستطيعون تقديمه من واقعية. كعادته، تألق مدير التصوير إيمانويل لوبيسكي، وهو حائز الأوسكار عن أفضل تصوير في "الرجل الطائر". كما ضم ايناريتو إلى طاقمه التقني بعد انقطاع طويل جداً الملحن الياباني الكبير ريووشي ساكاموتو، الشهير بموسيقا "الإمبرطور الأخير" لبيرتولوتشي، بالتعاون مع كارسيترن نيكولاي وبرايس ديسنر. بالتأكيد، فإن فيلم "العائد من الموت" (2015) تحفة سينمائية ستبقى في الذاكرة طويلاً.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية