حول كتاب مدخل إلى تحليل الصورة قيس الزبيدي


حول كتاب مدخل إلى تحليل الصورة قيس الزبيدي

«باختصار شديد، إن كينونة الصورة هي في قوتها». لوي ماران Louis Marin في مقدمة كتابها "مدخل إلى تحليل الصورة" (الفن السابع (249) المؤسسة العامة للسينما. دمشق /2015) ترجمة نبيل الدبس، تبين المؤلفة الفرنسية مارتين جولي إن الكتاب: "يرمي إلى مساعدتنا، نحن "مستهلكي الصوّر" في تعميق مفهومنا للصورة وإدراكنا لآلية عملها في ميداني الاتصال ونقل الرسائل. ويطمح إلى تزويد القارئ بقدر ضئيل من العون على إدراك طبيعة ما يمتلك من تأهيل،على الصعيدين الذاتي والثقافي، لكي ينفتح أمامه السبيل لفهم الصورة فهماً أولياً. بوصفها واحدة من أهم أدوات الاتصال المعاصر وأكثرها سيطرة وتأثيراً. يتناول الفصل الأول: الصورة والنظرية السيميائية والثاني : المقدمات المنطقية لتحليل الصورة كرسالة والثالث: الصور الإعلانية والرابع: تحليل بعض الأحكام الجاهزة. حول الصورة والكلمة. إضافة إلى ان المؤلفة اختارت ثمانية عشر مقطعا مرجعيا نظريا أو تاريخيا تزيد كلماتها على ستة آلاف كلمة ضمن اطار خاص، يمكن للقارئ تمييزه بسهولة وله أن يرجع إليها أو أن يتجاهلها وفقاً لمستوى معارفه واهتماماته. بدوره يضيف نبيل الدبس ثبتا بنحو 63 مصطلحا، مكنته دون شك من إنجاز ترجمة الكتاب الصعبة بسلاسة ووضوح الى حد بعيد. لنأخذ المقطع الثالث المرجعي مثلا حول تصنيف بيرس للعلامات التي تستعيده المؤلفة لأنها ترى فيه: عوناً كبيراً على فهم اختلاف أنواع الصورة وفهم نمط عملها. مع أنها تعتقد أن هذا التصنيف يحتاج إلى المزيد من الدقة والتمحيص. يوضح بيرس: تبعاً لنمط العلاقة القائمة بين الدالّ (الوجه المُدرَك) وبين المرجع (ما يتم تمثيله ، الشيء أو الموضوع العيني)، الذي يتم تمثيله، وليس بين الدال والمدلول. ومن هذا المنظور، يخلص إلى أنواع ثلاثة رئيسية من العلامات: الأيقونة و القرينة و الرمز. يرتبط في الأيقونة الدالّ فيها بعلاقة تقوم على التماثل، بينه وبين ما يمثله، أي بين مرجعه الموجود و العيني. أما القرينة، أو المؤشر، فتمثل صف العلامات، التي ترتبط مع ما تمثله بعلاقة سببية، تقوم على التجاور الفيزيائي. هذه حال العلامات المسماة "طبيعية"، مثل الشحوب علامة التعب، والدخان علامة النيران، الغيوم علامة المطر. تتسم طبيعة الصورة بأنها اصبحت كونية بمعنى أن الإنسان، منذ عصور ما قبل التاريخ، بدأ يصنع صوراً في كل أنحاء العالم وإلى يومنا هذا، وترك في كل مكان فيه آثاراً تعود إلى حقب تاريخية تترجم قدراته التخيلية، على شكل رسومات، فوق الصخور. كان الغرض منها إنْ كانت محفورة أو منحوتة، إيصال الرسائل. وشكـّل بعضها ما سُـمّي لاحقاً "تباشير الكتابة"، واستخدم في ذلك أساليب وصف وتجسيد، لا تتعدى تمثيل المظاهر الأبسط للأشياء الواقعية. ويعتقد أن هذه الصور ألأولية، كانت أيضاً على صلة بطقوس سحرية ودينية، سادت في تلك العصور. وشكلت الصورة أيضاً نواة للفكر الفلسفي، منذ غابر الأزمان. ونتبين خاصة التعريف الأقدم، الذي أعطاه أفلاطون وأطلق فيه اسم صورة على الظلال، ثم الانعكاسات التي يراها الإنسان على سطح الماء أو على سطوح الأجسام المصقولة واللامعة وعلى كل ما يتمثل وفق هذا النمط. وقد هاجمها أفلاطون وسقراط، بوجه خاص، أو دافعا عنها للأسباب ذاتها. فهي محاكاة، وبالتالي خادعة، تعمي عن الحقيقة في رأي أفلاطون أو على العكس أداة تثقيف، تقود إلى المعرفة بالنسبة لسقراط. وأعتقد الأول أنها تغوي الجوانب الأضعف في النفس البشرية، بينما رأى الثاني أن تأثيرها يأتي من خلال المتعة التي تمنحها للإنسان. يبقى المبدأ الأول، الذي يظل وينبغي ماثلاً في أذهاننا يتمثل في أن ما نسميه "صورة"، هي هجين غير متجانس. يجمع وينسّق، ضمن إطار معين، بين أصناف شتى من العلامات: "صور"، بالمعنى النظري للكلمة، علامات أيقونية، تماثلية، لكن أيضاً تشكيلية جمالية: الألوان والأشكال والتكوينات الداخلية، كذلك، علامات ألسنية. وتتعرض المؤلفة إلى نحو أربعين مفهوما مختلفا لمعانيها ، تتفاوت مابين مفهومي الحكمة والتسلية، الجمود والحركة، الدين والتلهّي، التزيين والتشابه، اللغة والظل. وأحد معاني كلمة إيماغو imago باللاتينية، وهو الأصل الذي اشتقت منه كلمة "صورة" image يحيل إلى القناع الجنائزي، الذي كان يرتديه الرومانيون القدماء، أثناء تشييع موتاهم. هذا المعنى الاستثنائي للكلمة، يربط الصورة بمفهوم الموت، وهي التي قد تكون طيف الميت، أو ربما روح الميت، بل يربطها أيضاً بمجمل تاريخ الفن والطقوس الجنائزية. أما كلمة "صورة"، في اللسان، فهي التعريف، الذي يُطلق على الاستعارة وهي أكثر أشكال البلاغة استخداماً وشيوعاً، وأكثر مواضيعها دراسة. ويعطي المعجم للاستعارة مرادفاً لكلمة "صورة". واعتبار الصورة مثلت العلاقة الخاصة بالصور والمكانة التي تحتلها في الأديان اليهودية – المسيحية قضية مفصلية في المسألة الدينية. لقد حرّم الإنجيل صناعة الصور والسجود لها (الوصية الثالثة). وهذا التحريم يعنى أن الإنجيل كان ينظر إلى الصورة، على أنها الصنم والإله. وبالتالي كان يتوجب على الأديان التوحيدية محاربة الصور، أي محاربة آلهة آخرين. ولعبت قضية الفصل بين التمثيل الديني والتمثيل الدنيوي، في عصر النهضة، الدور الأساس في ظهور أجناس الفنون التصويرية. وكان القانون البيزنطي يعاقب تعبّد الأيقونات وتصوير المسيح وترك أثراً عميقاً ، مع انه اُلغِي، على مسيرة فن الرسم الغربي. وبما أن الصورة بصريأً تشبه أو تتطابق مع ما تمثله، يمكن أن تكون وسيلة خداع وأيضاً وسيلة تثقيف. وندرك اليوم أن كلمة صورة، على بساطتها، ربطت الإنسان ،على مدى التاريخ، بعدد كبير من المفاهيم الجوهرية، لعل من أهمها مفاهيم الديمومة، المقدس، الموت، المعرفة، الحقيقة، الفن. ولا نبالغ إذا قلنا أن هذا التاريخ، كان له بالغ الأثر في تكوين الفرد على مر العصور، سواء تم ذلك بطريقة واعية أم لا . وعليه فهو يدفعنا إلى مقاربة الصورة مقاربة مركبة ، ويجعلنا، بكل عفوية ، ننسب إليها قدرات سحرية، كونها ترتبط بكل الأساطير العظيمة، التي تركت بصمتها في حياتنا. النتيجة الثانية ، هي أن الصورة تـُدرَك على أنها علامة تشابه ومعضلتها تكمن أساساً في هذا التشابه. وتنبع الخشية التي تثيرها في النفوس، تحديداً، من تنويعات هذا التشابه. وقد تأتي خطورتها من المغالاة أو من النقص في التشابه، على حد سواء. فالمبالغة في التشابه، قد تكون سبباً في الخلط، بين الصورة والموضوع الممَثـَّل. فعندما تلوح لنا صورة ما، وكأنها "مشابِهة"، هذا يعني أنها قد بُنيـَتْ بطريقة تدفعنا إلى فك شفرتها، مثلما نفك شفرة العالم الواقعي الذي نعيش فيه. أما خاصية التسجيل الآلي للعالم، التي تعتبر من صلب فعل التصوير الفوتوغرافي، فلها تَبِعتان رئيسيتان: أولاها، أن الصورة الفوتوغرافية اعُتبرت، منذ ولادتها، بمثابة نسخة محاكاة ناجزه عن الواقع، وبالتالي بمثابة وثيقة أو شهادة، يمكن استخدامها لتعقب الأشخاص ، ومقاضاتهم أو حتى إعدامهم . ويحيل الاستخدام المعاصر للـــ صورة في الغالب إلى الصورة الإعلامية. وهي صورة أصبحت غازية مسيطرة وحاضرة في كل زمان ومكان، ينتقدها الجميع، لكنها تتغلغل في ثنايا الحياة اليومية للناس وتوشك أن تصبح مرادفاً للتلفاز والدعاية الإعلانية. فالتلفاز وسيط أما الإعلان فهو مضمون. وصحيح أن التلفاز قادر على نقل وبث الإعلانات، بين ما يبث من مواد أخرى. لكن يبقى الإعلان رسالة خاصة، يمكن أن يظهر على شاشة التلفاز أو في السينما، كما في الصحافة المكتوبة أو في الإذاعة. ومع إننا نعلم أن الإعلانات ليست كل التلفاز، والعكس صحيح، لكن أذاه لا يستهان به لكثرة ما يتم تكراره. ويعتبر التلفاز أيضا أداة للترويج، فهو يروّج لنفسه قبل كل شيء وينحو إلى توسيع رقعة (كعكته) الإعلانية، لتغطي مجالات جانبية، مثل الأخبار أو الأفلام والمسلسلات. ومن بين النماذج المختلفة للصورة يوجد نموذجان مميزان: الصور المصنـّعة و الصور المسَـجَّـلة. فالصور المصنـَّعة، تحاكي بدرجة متفاوتة من الدقة، نموذجاً معيناً، أو إنها، كما في الصور العلمية، المركبة بمساعدة الكمبيوتر، تشكل هذا النموذج. وإنجازها الأكبر في محاكاتها، بدقة، بحيث تغدو صوراً "افتراضية"، توهِـم بالواقع نفسه، رغم أنها ليست واقعية. وتشكل بذلك عناصر تماثل مكتملة ودقيقة للواقع . كذلك تتشابه الصور المسجـَّلة في غالبية الحالات مع ما تمثله. وتـُعتـَبر الصور الفوتوغرافية والڤيديو والأفلام السينمائية بمثابة صور مُشابـِهة ، إلى حدود الكمال وتتعزز وثوقيتها من كونها تسجيلات أُنجزت بوساطة أمواج صدرت عن الأشياء الأصلية ذاتها. وعليه فإن ما يميزها عن الصور المصنـَّعة، هو أن طبيعتها عبارة عن آثار وبقايا أو علامات يتركها الموضوع المصوَّر. بالتالي فهي، بالنسبة للنظرية، قرائن قبل أن تكون أيقونات. ومن هنا تأتي قوة تأثيرها. تذكر المؤلفة احد آلهة البحار بروتيوس الذي جاء ذكره في الاوديسة. كانت لديه القدرة على تقمص كل الاشكال التي يرغب فيها. ويمكن للصورة كذلك ان تكون كل شيء ونقيضه، بصرية ولا مادية، مركبة و"طبيعية"، حقيقية وافتراضية، متحركة وثابتة، مقدسة ومدنـَّسة، مغرقة في القدم ومعاصرة، مرتبطة بالحياة وبالموت, تماثلية، أداة للمقارنة، اصطلاحية، أداة للتعبير، أداة إتصال، بنـَّاءة ومدمـِّرة، مبعث خير وتفاؤل ونذير شؤم. للوهلة الاولى تبدو هذه "الصورة" البروتيوسية طيّعة وسهلة الاستخدام، لا تستعصي على الفهم. غير أن ذلك ليس سوى ظاهر الأمور. وهو ما يطرح امامنا مسألة- حسب المؤلفة - الترابط والتفاعل بين كل عناصر الصورة، الذي يولد المعنى، الذي نتعلمه، إلى حد ما، في كيفية فك رموزه، إما بطريقة واعية أو أحياناً بشكل عفوي،لكنه يتطلب وقفة تأملية، أكثر منهجية، لإدراكه على نحو أفضل. ولا شك ان مثل هذه الوقفة حققتها المؤلفة منهجياً على خير وجه على هذا تهدي كتابها الى منظر الصورة السيميائي كريستيان ميتز.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية