الفيلم الوثائقي.... وجهة نظر ترتكز على الوثائق والحياة


الفيلم الوثائقي.... وجهة نظر ترتكز على الوثائق والحياة

علي العقباني

فكرة التوثيق لم تكن سينمائية أصلا... فمنذ العصور الأولى للبشرية، كان لدى الانسان الميل والرغبة الداخلية وربما الحاجة أو التعبد في أن يعبر عما يحيطه من ظواهر أو أحداث معينة، فلقد سعى الإنسان الأول إلى أن يُوثق كل ما يراه من أشكال الطبيعة ربما خوفا أو تقربا أو إنجذابا، عبر رسومه وخطوطه على جدران الكهوف التي كان يعيش داخلها، ونلمح كل ذلك عبر العصور اللاحقة للبشرية وقبل إكتشاف فن الصورة والفوتوغراف والفن السابع، والخطوة الأساسية نحو التوثيق الصوري كانت مع بداية التصوير الفوتوغرافي، أما الفيلم السينمائي المتحرك الصامت بداية فلم يكن إلا مرحلة متطورة من التوثيق الفوتوغرافي. وكان في عمومه عبارة عن توثيق من خلال الصور المتتالية لتسجيل الواقع الذي يعتمد كوثيقة مسجلة بالصورة، والتي أصبحت عاملا مهما لتسجيل ما نراه يوميا من أحداث وشخوص في الحياة. يُعرَف الفيلم الوثائقي بأنه المعالجة الخلاقة للواقع. ويرى مختصون أن هذا التوصيف "الوثائقي" Documentaire استعمل لأول مرة مع فيلم "نانوك الاسكيمو" لروبير فلايتري سنة 1922، لكن المثير في هذا هو أن السينما حينما ظهرت مع الأخوين لوميير Les Frères Lumières اعتمدت في بدايتها على تصوير وإنجاز روبورتاجات،والصور الأولى للسينما كانت توثيقية، والروبورتاج يمكن أن نقدمه في هذا السياق كالإرهاصات الأولى للفيلم الوثائقي. لكن التعريف الأكثر تداولاً وإقتراباً من هذا النوع السينمائي ربما يكون: "الفيلم الوثائقي هو وجهة نظر ترتكز على الوثائق"، وربما يكون تسجيل واقع حي او مادة واقعية موجودة موضوعيا،حيث تعتبر السينما الوثائقية ضمير الانسان. حيث تكون امكانية نقل الواقع والتعبير عنه بموضوعية وصدق وبفنية عالية هي الانسب في التعبير لطرح مشاكل واقعنا المعاصر.

إن أهم المعيقات التي تلاقي صناعة الفيلم الوثائقي في العالم العربي عموماً، لها علاقة أولا بالدعم والإنتاج، بمعنى أن الدعم غالبا ما يذهب إلى الفيلم الروائي(على قلته في العديد من الدول العربية) و المنتجون لا يفكرون إلا بمنطق الربح، مما يجعل خوض غمار الفيلم الوثائقي بمثابة مغامرة، كما أن دور العرض السينمائية لا تقدم للمشاهد أشرطة وثائقية إلا نادراً، خصوصا قبل الروائية من باب الترويج والتشجيع ثم التثقيف. و هذا ينعكس سلبا على سلوكيات المتلقي الذي تكرست لديه فكرة أن الوثائقي ممل، و انه يتطلب مستوى ثقافي عال لاستعاب رسالته. هذا الفهم كرسته كذلك قنواتنا التلفزيونية التي عادة ما تعرض الأفلام الوثائقية خارج أوقات ذروة المشاهدة، فضلا عن أنها تعتمد أشرطة وثائقية أجنية لعرضها أكثر من اهتمامها بالفيلم العربي. لسنوات طويلة ظل الفلم التسجيلي والوثائقي حكرا على المؤسسة الرسمية الحكومية(سينما وتلفزيون ووزارات متخصصة) أُنتجت خلالها الكثير من الأفلام الدعائية والاعلانية والترويجية، وبعض الموضوعات السياحة، وافلام التربية والتعليم و أفلام الحرف الشعبية، وكان البناء السينمائي لتلك الافلام هو النقل الحرفي للموضوع والوصف الخارجي للاشياء، قبل أن يظهر مخرجون شباب جدد كانت لديهم أفكار جديدة حول الفيلم الوثائقي والتسجيلي، بادروا إلى إنجاز أفلام تلامس الواقع وتقرأ مشاكله بعين مختلفة ورؤية جديدة. وهنا سيكون علينا أن نذكر أن هذه السينما مجهولة جماهيريا في بلادنا العربية عموماً، إلى حد كبير،كما يقول كثير من المخرجين، ويخاف المتلقي منها كما جهات عامة كثيرة لأنها تتحدث عن أشياء لا يحب سماعها، وتفتح ملفات قد لا يريد مشاهدتها أو الاقتراب منها. القنوات التلفزيونية تستخدم الوثائقي برامج او افلام لسد الفراغ ونادرا ما يخصص لمثل هذه البرامج أو الأفلام أوقات مثالية للعرض، هذه النظرة السلبية للفيلم الوثائقي في عالمنا العربي ساهمت في ضعف الإنتاج الوثائقي إلى حد كبير وكذلك ساهمت في إبقاء تلك النظرة السلبية للفيلم الوثائقي من قبل المشاهدين قائمة، وسيبقى الجدل مفتوحا حول السينما الوثائقية وموقعها على الخارطة السينمائية العربية ومن هو جمهورها، وكيف يمكن تطوير لغتها السينمائية لتصبح أقل نخبوية وأكثر جماهيرية. إذا سلمنا أن الفيلم أداة بحث عن الحقيقة في الواقع والإنسان والأزمات والإشكاليات الوجودية والحياتية، فإن هذا لا يعني نقل وتوثيق الواقع فحسب بل التغلغل والحوار مع الواقع، ان الفيلم الذي لا يولد حواراً ونقاشاً وجدلاً حول واقع وحالة ما فهو فيلم أقل ما يقال فيه أنه فاشل وضعيف....أن نتأمل بدل أن نكتفي بتلقي التعليق والصورة، أن نعيش لا أن نراقب،هو ما يضفيه الفيلم الوثائقي والتسجيلي عموماًعلى أرواحنا وحياتنا... والسينما الوثائقية لا تشاهَد، ولا تُصنَع، إلا في جو ديموقراطي حر ومستقل ....لذلك سيظل الفيلم الوثائقي ذلك الطفل المشاكس والجدي في الآن نفسه.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية