كمال رمزي عن مجلة الشروق الالكترونية . فى الأيام الأخيرة، انهمرت علينا مئات الصور الفوتوغرافية، ترصد ما جرى فى محيط نقابة الصحفيين، مما ينبئ بأن ما تم توثيقه، سيغدو مادة ثمينة لعشرات الأفلام التسجيلية، قد تنحاز لهذا الطرف أو ذاك، لكن الأهم، أن هذه الصور، فى حد ذاتها، تتمتع بحضور قوى، كلما تأملتها، تكشف لك عن مزيد من المعانى، الاجتماعية، الصحية، النفسية.. دع عنك القضايا السياسية، ذلك أن مجموعة الصور الثمينة، فى تنوعها، وتفاصيلها، أوسع وأعمق من الوقائع المصاحبة لها، فضلا عن كونها تثبت ما يتمتع به جيل جديد من مصورين، يتمتعون بعيون لاقطة، ذكية، تنفذ إلى ما وراء الصورة، يساعدها فى هذا قدرات وحساسية أدوات التصوير.
تراوحت الصور ما بين لقطات عامة، من بعيد، تهتم بالمجاميع، تقدمهم ككتلة واحدة، معظمها لنساء متشحات بجلابيب سوداء، لا تظهر تفاصيل الوجوه، قليل منهن يحملن أطفالهن على الأكتاف. الأطفال، يمسكن برءوس أمهاتهن.. فى جانب من بعض الصور، يقف أتوبيس جديد، نظيف، يتناقض مع مستوى السيدات المتواضع، يشير بوضوح إلى أنه تم تجميعهن من أماكن منسية، اسمها لم يكتب واضحا على الخرائط.. ذات التكتلات، طالعتنا من قبل، أمام الجمعيات التعاونية، أو بجانب مخازن بيع أنابيب البوتاجاز، حين تشح السلع فى الأسواق، سواء المواد التموينية أو أنابيب الوقود.
فى اللقطات المتوسطة، تتضح بعض التفاصيل، خمسة أو ستة أشخاص، بينهم رجال من الصعب تحديدا أعمارهم، جلد وجوههم منطفئ، أقرب إلى اللون البنى، من الصعب أن تعرف إذا كان سبب التجاعيد راجعا إلى الأنيميا الناتجة من سوء التغذية، أو لتقدمهم فى السن.. أكثر من واحد، يضع على عينيه نظارة نظر سميكة الزجاج، أجزاء من إطاراتها مربوطة إلى بعضها بالخيوط، فالواضح أنها كسرت من قبل، فقام صاحبها باللازم.
وجوه الرجال منهكة، بائسة، غاضبة أصلا، ليس تجاه «الخونة»، «العملاء»، لكن تجاه واقع ضنين، أتى بهم لهذا المكان، عليهم بالصياح، الهتاف، الصراخ، إطلاق الشتائم.. سريعا، تنشرخ الحناجر الضعيفة، تبح الأصوات، يستبدل كل هذا بحركات أصابع ماجنة.
الطريف، أن النساء الغلابة، الحائرات، متخبطة التصرفات، فجأة، يستبد بهن الوجد المزيف فينخرطن فى نوبة رقص.
أحيانا، تقترب الكاميرات من المتظاهرين، أثناء هتافهم، ترى معرضا كاريكاتوريا لأفواه مفتوحة على آخرها، بعضها مستديرة كالقمع، بعضها يأخذ شكل الكمثرى المعطوبة، عريض من أسفل، رفيع من أعلى، مع جزء من الشفاه مرتد للداخل.. اللهاة واضحة فى العمق على جانبها اللوزتين، وأحيانا، بلا لوز.. اللافت، يكمن فى الأسنان إن وجدت، فمعظمها، بلا أسنان، وطبعا، بلا طاقم أسنان، فالواضح أن قلة ذات اليد، أبعدتهم عن رفاهية الذهاب للأطباء.. مع الاكتفاء بضروس قليلة، علاها الصدأ، متناثرة، فى الفك العلوى أو السفلى.. أحيانا، لن تجد إلا سنة واحدة، يتيمة، صفراء، معوجة، مدلاة من منتصف الفك العلوى. توحى، فى الأشداق المفتوحة، أنها على وشك السقوط.
كل هذا فى كوم، والصورة التى التقطها موهوب لا أعرف اسمه، فى كوم آخر.. صورة تغنى عن أى كلام. لقطة كبيرة، قريبة، مختزلة، تركز على قدم واحدة، لمواطن «شريف»، لا يظهر بدنه أو وجهه فى الصورة.. لكن أصابع قدمه، ومشط رجله، والصندل، تعبر تماما عن شخصه، وتعيدنا، قسرا، لثلاثة أرباع قرن من الزمان، وبالتحديد، أيام بداية حملة مقاومة الحفاء فى مصر، عام ١٩٣٩، فهنا، والآن، بعد كل هذه العقود، يتصدر الصورة، صندل مهترئ، متآكل، لا لون له، يطل منه أصابع متخاصمة، متداخلة، بأظافر طويلة، بينها وبين اللحم عجينة سوداء، نتيجة اختلاط العرق بالتراب.. فيما يبدو، أن لكل أصبع من أصابع القدم شخصيته، فثمة الطيب، أو المتمرد، أو الأنيق، أو اللئيم.. هنا، يوحى الأصبع الصغير بأنه خجول، ليس مكسورا، لكن منكسرا، يحاول الاختباء تحت الأصبع الذى بجواره، يغطى نفسه بظفر ملتوٍ من الأمام.
عقب مشاهدة هذه الصور، لا يستطيع المرء ألا يتساءل: أهذا.. حال أهالينا؟