المرئي والمسموع في السينما


المرئي والمسموع في السينما

قيس الزبيدي

منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما (112)

لعل من يعرفون حنا مينة عن قرب لا يعرفون له علاقة بالسينما إلا عبر نقل بعض أعماله الروائية إلى السينما في سورية وهي أربعة أعمال أدبية: "اليازرلي" عن قصة "على الأكياس" القصيرة، و"بقايا صور": عن رواية بنفس العنوان، و"الشمس في يوم غائب" أيضاً عن رواية بنفس العنوان، و"أه يا بحر" عن روايته "الدقل" لكن حنا مينة اقترب كثيراً من السينما وجرب مرة حتى الكتابة المباشرة للسينما.
لسنوات كان الكاتب يشارك في "اللجنة الفكرية" في المؤسسة العامة للسينما (من عام 1970 إلى عام 1974) وهي سنوات حافلة في تاريخ السينما السورية.
وكانت مهمة هذه اللجنة قراءة النصوص الأدبية السينمائية ودراستها، ومن ثم الموافقة عليها لدرجها في خطة إنتاج المؤسسة، كما كانت أول محاولة له لكتابة قصة سينمائية من قصص ثلاثية فيلم "رجال تحت الشمس" الفيلم الأول للسينما الجديدة في سورية.
وانطباعي المباشر عن علاقة الكاتب بالسينما بأنها لم تكن علاقة سيئة وأذكر مرة أنه شاهد في النادي السينمائي بدمشق وهي صالة الكندي فيلم "عناقيد الغضب" لجون فورد عن رواية للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، غير أنه غادر القاعة في الاستراحة لأن الفيلم لم يعجبه كما أعجبته الرواية العظيمة، وأنا شخصياً لا أعتقد أن حنا مينا أعجب حقاً بأي من الأعمال السينمائية التي تم اقتباسها عن أعماله الروائية.
أذكر إعجابه الشديد بالسيناريو الذي كتبته عن رواية "الياطر"، وقتها قال لي ما معناه أنه لو كان شخصياً يجيد كتابة السيناريو لما استطاع أن يكتبه بشكل أفضل، وقد استطعت أن أجد في إعجابه عزائي المنشود – بعد أن لمست عدم رضاه أو أعجابه بفيلم "اليازرلي" الذي حينما شاهده في عرضه الخاص الأول ذهب دون كلام.... وأذكر هنا أنه تابع كتابة معالجته في "اللجنة الفكرية" ووافق أيضاً على السيناريو الأدبي واقترح علي في صفحتين إضافات واقتراحات أخذت بها كلها في الديكوباج أي: في نص التصوير والإخراج ولازلت أحتفظ بالصفحتين المكتوبتين بخط يده.
ومن هنا أستطيع أن "أفترض" أن الكاتب الكبير لم يكن ليعجب بفيلم "الياطر" لو قدر لهذا الفيلم أن ينجز أيضاً.
من حقي أن أعرف بقصة "على الأكياس" مدار معالجة الفيلم.
بطل القصة الكاتب نفسه الذي يروي بصيغة المتكلم ذكرياته عن طفولته وتحديداً عن بداية انخراطه في عالم العمل وتركه المدرسة إلى الأبد. والقصة تبدأ في مساء من الأماسي المتشابهة، حينما لم يرجع الأب بائع "المشبك" من قرى اسكندرون إلى بيته وإلى عائلته الفقيرة الجائعة التي انتظرته طويلاً، كما كانت تفعل دائماً. وقد قامت الأم بنفخ روح الأمل في أفراد العائلة، الشقيقات الثلاث والصبية الصغيرة – لأنها كانت ترجو عودة الأب مهما تأخر – إلا أن الصبي التلميذ الناجح في دراسته، لم يعد يطيق مثل هذا الانتظار الدائم لعودة الأب، وقرر: "هذه الليلة وقبل أن أغفو، قررت فعل شيء لأجل الأم والعائلة وفكرت أن أعمل أجيراً في أي مكان".
هناك تعرف الصبي على "اليازرلي" الذي سمع عنه أشياء كثيرة ومثيرة، ولم يكن اللقاء سهلاً، إلا أن صديقه الشاطر، الذي يسعى لتشغيله مع بقية الأولاد، يتشاجر مع اليازرلي ويهدد بالتوقف عن العمل إذا لم يوافق على تشغيله، وبعد الموافقة المؤلمة يمضي الصبي مع صديقه "إلى العربة وأنا وراءه... وبوضع يدي على الحديد دخلت دنيا العمل وودعت الدراسة... كان ذلك أخر العهد بالمدرسة، وأنا في الثانية عشرة من العمر".
ويصف لنا الرواي / الصبي جو العمل ومعاناته الأولى وهو يدفع العربة إلى جمر الرمال وتحت لهيب الشمس بينما قدماه تخور رويدا رويدا ... ويؤدي به هذا إلى وقوعه مغشياً عليه من الحر الشديد والتعب والإجهاد، وقتها يتعرف على "اليازرلي" الشديد والقاسي، في صورة أخرى هي مزيج من الرعاية والعناية "الأبوية".
ويقع حادث، يتيح للصبي فرصة عمل أخرى هي: الكتابة بالفرشاة والحبر على أكياس الخيش لرسم "ماركة" البضاعة بالحروف اللاتينية، بعد أن فقدت الصفيحة التي تعمل لهذا الغرض.
ويشهد الصبي مشادة عنيفة بين اليازرلي وعماله الحمالين، غير أ، بقية الرجال في العنبر يسارعون لاحتضان المتخاصمين وإبعادهم، وتنتهي المشاجرة الخطرة بالمصالحة والضحكات.
وفي المساء في نهاية يوم العمل، قام اليازرلي بتفتيش جيوب العمال لأنهم غالباً ما كانوا يملأون جيوب ستراتهم وتحت بطاناتهم بالقمح والعدس، ويلاحظ الصبي أن اليازرلي يتحرى بعضهم بصورة شكلية ويتسامح بكميات القمح والعدس الصغيرة، ويكون عجب الصبي كبيراً لسهر اليازرلي وأمانته وقسوته وطبيته في آن واحد، وقبل العودة إلى البيت يمنحه اليازرلي ثلاثة قروش كهبة "خارج الحساب" بعد أن قام بكتابة بعض الحسابات في دفتره الصغير.
وفي البيت "كانت البشرى: عاد الوالد! وعانقتني الوالدة وبكت فرحاً، وبعد أن قصصت عليها كل شيء أعطيتها القروش الثلاثة، فركعت أمام أيقونة العذراء، ونذرت لها نذراً، وخرجت فطافت بيوت الجيران قائلة:
سمعتم؟ ابني توظف... كاتب، والعقبى لأولادكم".
ودخل اليازرلي السجن بعد أن هجم على جارته وهي عارية تماماً، ولكنه عاد بعد فترة غير طويلة بكفالة تاجر واستأنف عمله في العنبر، وكما تابع الصبي تسجيل الحسابات والعمل عنده في العنبر.
حدثت الهجرة وافترق الجميع... وبعد عشرين عاماً، وبعد أن تقدم العمر بالراوي، عاد والتقى اليازرلي في أحد شوارع دمشق وهو يبيع السكاكر عند بوابة إحدى المدارس وعرفه بنفسه وسلم عليه، وحينما أخبره صديق بصحبته بأن صبي الأمس، أصبح كاتباً معروفاً، ابتسم الرجل المتعب، وأطرق قائلاً: بدأ الكتابة عندي... على الأكياس!!...
كما عرفنا فإن "اليازرلي" هو الفيلم الوحيد الذي يعتمد في معالجته على قصة قصيرة وهذا – كجنس فني – يضع أمام المعالجة الدرامية ليس فقط مهمة إعادة ترتيب جديد لزمن القصة، إنما أيضا تطوير لأحداثها وشخصياتها بما يتناسب مع زمن سرد القصة في فيلم روائي طويل، دون أن يتم، في هذه المهمة، إغفال الكيفية الجديدة التي يتم فيها سرد القصة.
إن "وسيط" السينما البصري / السمعي له خاصية مميزة، حيث لا ترسم فيه أمام القارئ جملة الدلالات التي يتصور هو مداولاتها أثناء عملية القراءة، إنما المتفرج يرى ويسمع، الناس والأشياء والطبيعة مباشرة، وبهذا يختلف منطق سرد "القراءة" عن منطق سرد "الفرجة" حيث لا تهدف الكلمات والجمل والوصول إلى خاصية "الأدب" إنما تنزع إلى التحول إلى صور ,أصوات كدوال مبتكرة في أسلوب السرد، هنا لا يعول على "الأدبي" كقيمة في ذاته إنما على "الفيلمي" الذي تلبسه وتجسده اللغة، "الفيلمي" الذي ندركه في صورة الحسية.
أنها نوع لغة واصفة ينتمي وجودها حينما تذوب في وجود أخر، عناصره الصور والأصوات التي ترسم العالم المرئي والمحكي في الفيلم، هدف الوصف وجود أخر يلغيه، من هنا أهمية "التقابل" بين الأدبي والفيلمي الذي لا يمكن أن يتأسس على "التماثل" إنما على "التفارق" وضمن رؤية العلاقات المتبادلة الجدلية لعناصر المتشابهات والمتفارقات في وسيلتين أو وسيطين مختلفين يتسنى لنا أن نقترب من طبيعة هذه "الإشكاليات".
ومن المفيد هنا أن نرجع إلى رأي بازوليني بهذا الصدد، لأنه أديب روائي حول بنفسه بعض أعماله للسينما، فكما كتب الشعر والرواية كتب السيناريو الأدبي وأخرج أفلامه عن نصوصه، وباعتبار أن الصورة تلبس، أولاً، لباس الكلمات يرى بازوليني أن السيناريو الأدبي يشكل نقطة تلاق بين الأدب والسينما حيث تقوم الكلمة بدور وحدة لغوية، أي: علامة وظيفتها إحلال شيء بدل شيء أخر: كلمة / شيء. أما العلامة في السينما فهي أيقونة بصرية تتطابق فيها العلاقة بين الشيء ومظهر الشيء نفسه العلامة / مظهر الشيء.
في الحالة الأولى ينفصل الدال عن المدلول، كلمة أو مورفيم "شجرة" تقابلها الصورة الذهنية للشجرة، أما في الحالة الثانية فيتطابق فيها الدال مع المدلول، حيث هناك حضور الشجرة نفسها في الصورة.

الفهرس

- مقدمة المؤلف...
- الفصل الأول: أفلام....
- أسلوب من الحب...
- الجلد والعظم...
- قنال...
- السينما الفيتنامية الشابة...
- اليائسون...
- عشرون ساعة...
- فيرنيك كوسا... و"عشرة ألاف شمس"
- عالم فيلليني السينمائي...
- أضواء على فيلم فيلليني "اماركورد"
- الفافيل...
- اللعبة...
- الصحراء الحمراء...
- حب وغضب...
- الميزانية الربعية...
- التحري...
- "شبح الجنة" و "فرانكشتاين"
- بعض خصائص السينما الجزائرية...
- نواة...
- السينما الكوبية...
- الفصل الثاني: كتب...
- علم جمال السينما...
- فن الفيلم....
- بحثاً عن السينما...
- قصة السينما في العالم...
- فرانشيسكو روزي والفيلم السياسي...
- محطات القطار...
- تحولات السينما العربية المعاصرة... قضايا وأفلام...
- شاشة للتضليل...
- الفصل الثالث: مقالات...
- حول جدلية الشكل والمضمون في العمل السينمائي...
- المنطق السينمائي وعناصره المميزة...
- البطل الدرامي الجديد والمونتاج عند أيزنشتين....
- 1- حول بنية اللغة السينمائية.
- 2- حول بنية اللغة السينمائية.
- الفصل الرابع: الرواية والسينما...
- العلاقة بين الأدب والسينما... مشكلة أم إشكالية؟
- حول "إشكالية" تحويل الرواية إلى فيلم..
- فيلموغرافيا...
- الفصل الخامس: حول الفيلم التسجيلي...
- الفيلم التسجيلي وعلاقته بالسينما العربية...
- حول الفيلم السياسي...
- الفصل السادس: في نظرية السينما...
- تخطيط أولي في ماهية السينما...
- فن الصور المتحركة أم فن صور الحركة؟
- حول قضية اللغة في السينما والتلفزيون...
- الفصل السابع: دراسات:
- حول السيناريو...
- لماذا سؤال المونتاج باستمرار؟
- حول الصوت...
- ملحق... تعاريف...







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية