إجرامي

الإصدار: العدد مائة و أربعون

إجرامي

د. رياض عصمت

    هناك موجة متزايدة في الألفية الثالثة من الأفلام التشويقية المتمحورة حول مفهوم "اللا- بطل"، بمعنى أنها تصور شخصية محورية تبدأ سلبية، ثم تتحول تدريجياً إلى نقيض ذلك من الإيجابية. لا شك أن هناك جذوراً قديمة لذلك الاتجاه في السينما الكلاسيكية، من فيلم "كازابلانكا" من بطولة همفري بوغارت وإخراج مايكل كورتيز، إلى فيلم "العصبة المتوحشة" من بطولة وليم هولدن وإخراج سام بكنباه. يمكن أن يتذكر المرء عدداً من أفلام الوسترن التي قدمت شخصية مقاتل خارج عن القانون أو سكير أو متشرد، لكنه يتحول عبر حبكة الفيلم إلى شخص يدافع عن قيمة إنسانية، أو يرغب في الاستقرار على أرض بعد تسكع طويل، أو يشعر بعاطفة جارفة تجاه شخص ما. ينتمي فيلم "إجرامي" (2016) للمخرج آرييل فرومن، من بطولة النجم كيفن كوستنر، إلى هذا الطراز من الأفلام، متابعاً ما بدأ في الربع قرن الماضي مع أفلام مثل  "رحلة طيران المجرمين" من بطولة نيكولاس كيج، "لا مكان للفرار" من بطولة جان-كلود فان دام، "هوية بورن" من بطولة مات دامون، و"إركض طوال الليل" من بطولة ليام نيسون. إنها الصور التجارية للمفهوم الذي كان أرسطو أول من حدده وأسماه Peripeteia أي "انقلاب الأضداد".

يبدأ فيلم "إجرامي" (2016) بعميل سي. آي. إيه. هارب من مطارديه في أرجاء لندن، حاملاً حقيبة تتضمن مبلغاً خيالياً ضخماً وجواز سفر أمريكي، بينما يرصد تحركاته أيضاً قائد وحدته وعناصره من مبنى السفارة الأمريكية.  يلقي الإرهابيون القبض على عميل الاستخبارات، ويعرضونه لتعذيب شنيع ليبوح بالمخبأ السري الذي أخفي فيه عبقري كومبيوتر "هاكر" منشقاً عنهم يمتلك القدرة على التحكم بصواريخ الجيوش وإطلاقها لإشعال حرب عالمية ثالثة تتوق إليها تلك الجماعة الإرهابية الفوضوية المتطرفة، فقد وثق المنشق بالعميل، وسلَّم نفسه إليه ليخبأه في مكان مجهول، يؤمن له جواز سفر أمريكي وحق اللجوء وعشرة ملايين دولار مقابل تسليم البرنامج للمخابرات المركزية الأمريكية ودرء خطر حرب نووية عن العالم. يقتل عميل الاستخبارات تحت وطأة التعذيب بالصعق بالكهرباء. يثم العثور على جثة العميل الشاب قتيلاً، وتفجع زوجته وابنته الطفلة بالخبر، لكن قائد الوحدة الاستخباراتية لا ييأس، بل يلجأ إلى طبيب يقوم بأبحاث تجريبية لنقل ذاكرة إنسان إلى آخر ليساعده على إحياء ذاكرة العميل الميت. يختار الطبيب شخصاً بلا عواطف، ولا قيم، ولا آمال في مستقبل، لينقل إليه الذاكرة. يخرجون المجرم الخطر جيريكو (لعب دوره كيفن كوستنر) من سجنه الحصين، وينقلون له بجراحة متقدمة ودقيقة ذاكرة عميل المخابرات القتيل رغماً عن إرادته. هنا، تبدأ نقطة التحول في الفيلم، فالسجين يصحو بذلكرة مضطربة تنوس بين طبيعته العنيفة ومشاعر الفقيد رب العائلة المحب. سرعان ما يتمكن من الهرب، وتهديه الذاكرة الجديدة إلى بيت العميل الراحل، فيقيد زوجته ويهم بسرقتها، لكنه يشعر فجأة بعاطفة أبوية غريبة تجاه الطفلة البريئة النائمة. يصبح الرجل العنيف الهارب هدفاً لكل من المخابرات من جهة، وعصبة الإرهابيين من جهة أخرى، فكلاهما يسعى جاهداً لمعرفة مخبأ الشاب المنشق، والاستحواذ على برنامج ذلك "الهاكر" الذي يمكنه التحكم بالصواريخ النووية وإشعال حرب عالمية مدمرة أو وقفها. وحدها ذاكرة المجرم الهارب تمتلك سر المخبأ، لكن عقل جيريكو يتأرجح بعد العملية الجراحية بين شخصيته العنيفة الشرسة، وبين المشاعر النبيلة التي صار يكنها نحو الأرملة الشابة وطفلتها بشكل خاص. بعد مغامرات ومطاردات مشوقة، يقرر جيريكو ألا يسرق الحقيبة الملأى بعشرة ملايين دولار، تاركاً الأرملة وابنتها لمصيرهما الأسود، بل يتجه إلى المخبأ السري الذي وضع فيه "الهاكر". تلاحقه إلى ذلك المكان امرأة إرهابية، تصيبه بطلقة، وتعدم المنشق، لكن جيريكو الجريح يتمكن من الإجهاز عليها. يستحوذ جيريكو "فلاشة" تتضمن برنامج "الهاكر" القتيل، ويصبح متاحاً له أن يهرب بالغنيمة الكبيرة. هنا، يتلقى اتصالاً من زعيم الخلية الإرهابية الذي اختطف رجله أرملة العميل وابنتها كرهينتين، ويهدده بإعدامهما إذا لم يسلمه تلك الفلاشة. يقرر التخلي عن كل مكسب، ويذهب إلى مكان الموعد لمقابلة الإرهابي ورجاله ليقوم بمبادلة الفلاشة بحياتهما. هناك، يأخذ منه زعيم "الفلاشة"، لكنه يطلق على صدره رصاصتين. يصل عناصر المخابرات، ويشعر قائدهم بجزع هائل لأن الإرهابيين أطلقوا أول صواريخهم من غواصة نووية لإشعال حرب عالمية ثالثة، لكن جيريكو الذي يصحو من جراحه لا يبدي أي قلق. لدهشة الجميع، ينحرف الصاروخ المنطلق في الجو، فيغير مساره ويتوجه ليدمر طائرة الإرهابي نفسه. تلك هي البرمجة الجديدة التي استطاع جيريكو أن يجعل الهاكر المنشق يقدم عليها قبيل مقتله. في نهاية الفيلم، نرى جنازة يخيل إلينا معها أن بطل الفيلم قد مات متأثراً بحراحه. لكننا سرعان ما نراه على شاطئ البحر الذي قضى عليه العميل الراحل شهر عسله مع زوجته، ينتظر انضمام الأرملة الحسناء إليه. عندما تأتي، يشعرها بإيماءة ورثها عن زوجها الراحل أن ذاكرته ما زالت تحتفظ بتفاصيل علاقة الحب الزوجي بينهما، وتهرع الطفلة لتضمه بشعور من تفتقد الأب، فيبادلها محبتها بحنان غامر لأول مرة في حياته. أما قائد المخابرات فيقول للطبيب إنه يعتزم أن يمنح جيريكو عملاً وظيفياً لديه، مما يمهد ربما لفيلم قادم.

فيلم "إجرامي" (2016) فيلم تشويقي ينطلق من فرضية طبية متخيلة عن احتمال نجاح نقل ذاكرة إنسان ميت إلى آخر حي، وهي فكرة خيال علمي أحياها الفيلم بمهارة وإقناع. استعان المخرج آرييل فرومن بباقة من الممثلين القديرين هم: كيفن كوستنر، تومي لي جونز، غاري أولدمان، رايان رينولدز، والممثلة الصاعدة غال غادوت. لكن مشكلة توزيع الأدوار الكبرى أن كيفن كوستنر - بالرغم من مقدرته العالية كممثل قدير ومشهور - يبلغ من العمر 61 عاماً، أي أكثر من ضعف عمر الأرملة الشابة، وهو عمر يصعب معه أيضاً أن يتمتع بالقوة والنشاط الجسدي للقتال والركض وخوض المغامرات، ناهيك عن بدء علاقة عاطفية مع شابة في عمر ابنته. ربما كانت تلك هي نقطة المقتل في هذا الفيلم الجيد، فالدور كان يصلح لنيكولاس كيج (52 عاماً)، لكنه اعتذر عن عدم قبوله، وكان قراراً خاطئاً بعد فشل نصف دزينة من أفلامه الأخيرة. بالتأكيد، فإن منتصف الأربعينات من العمر هو  ما يلائم شخصية جيريكو في قصة الفيلم، وهو الأمر الذي لم يكن لأي ممثل في الستينات من العمر أن يحققه. بغض النظر عن هذه الهنة، تضافرت جهود كاتبي السيناريو دوغلاس كوك وديفيد وايزبرغ مع تصوير دانا غونزاليس، ومونتاج داني رفيق، وموسيقا كل من كيث باور وبرايان تايلور، تحت إدارة آرييل فرومن الإخراجية، لإنجاز فيلم مقنع الموضوع من أفلام الإثارة والحركة يقدم نموذجاً لصورة اللا- بطل وهو يتحول تدريجياً إلى الإيجابية، ويتصرف بنبل وعاطفة وشرف وتضحية تليق ببطل.

 







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية