د. رياض عصمت
يبدو أن لكل زمان ومكان تاريخياً روبن هود. هذه المرة، ينبش المخرج المعروف غاري روس مع كاتب السيناريو ليونارد هارتمان صفحات منسية من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الأهلية، مسلطين الضوء على حقبة امتدت بين عامي 1862 – 1865، وعلى شخصية إنسان عادي يدعى نيوتن نايت، اضطرته ظروف مصرع ولده الشاب في الحرب إلى الفرار من الخدمة والاختباء في المستنقعات ليقود ثورة شعبية من الهاربين سوداً وبيضاً معاً، تقاوم من أجل العيش بسلام بمنجاة من أتون حرب أهلية تحرق أرواحهم حطباً بصورة عبثية.
يبدأ الفيلم بمعركة بين الجيشين الجنوبي والشمالي يسقط فيها عديد من القتلى ضحايا دون معنى وتتقطع الأوصال. نتعرف إلى نيوتن نايت الذي يعمل مع الجيش مسعفاً طبياً يسحب الجرحى إلى الخطوط الخلفية ليعالجوا في وضع بائس غير إنساني مرعب. يُسحب ابن نيوتن الشاب إلى الخدمة، فيحاول الأب جاهداً حمايته وإنقاذه، لكن طلقة تصيبه ليسلم الروح. يحمل نيوتن كفن ولده الشهيد على ظهر بغل، ويتخذ قراراً بالرحيل عن قطعته العسكرية كي يواريه الثرى على أرضه بالقرب من كوخه حيث تعيش زوجته وابنهما الطفل. تفجع زوجته باستشهاد ولدها الفتى، لكن يشغلها قلقها على طفلهما الآخر الصغير الذي أصابته حمى خطيرة، فلا يجد نيوتن طبيباً، لكنه يهتدي إلى صبية سوداء ماهرة في الطب الشعبي تساعده في شفاء الصبي. سرعان ما يعتبر نيوتن هارباً من الخدمة، خاصةً أنه لا يلبث أن يبادر إلى الدفاع عن أرملة وبناتها الصغيرات في وجه ثلة عسكريين من جيشه يريدون أن ينهبوا أملاكها المتواضعة، فيعلم الأم وبناتها كيف يشهرون السلاح في وجه المعتدين ويجبرونهم على الانسحاب. يتعرض نيوتن لمطاردة شرسة كفراري ينهش خلالها كلب ساقه، فيهرب بصعوبة ويضطر إلى الالتجاء إلى منطقة المستنقعات العصية على مطارديه، حيث تعتني به الصبية السوداء التي سبق أن أنقذت طفله الصغير من الحمى. هناك، يجد نيوتن نفسه بين مجموعة من العبيد الهاربين من ظلم أسيادهم الجنوبيين، لكن المجموعة تتزايد بفرار عدد من البيض أيضاً، ممن يريدون النأي بأنفسهم عن تلك الحرب الأهلية الجنونية. سرعان ما يتحول نيوتن نايت إلى روبن هود أمريكي، يسرق الأغنياء ليطعم الفقراء، ويدافع عن المضطهدين في وجه ظالميهم. يسير معظم الفيلم على نهج عديد من أفلام التمرد، مثل "سبارتاكوس"، "فيفا زاباتا"، "عمر المختار"، "وليم تل" و"روبن هود". تدريجياً، تتصاعد رغبة القوات الجنوبية في القضاء على ظاهرة التمرد هذه، التي حافظت على حصاد موسم الذرة لصالح الفلاحين، لكن المحاولات تفشل في اقتحام تلك المستنقعات العصية. يقوم الجنود بإحراق بعض المزارع، ويعرضون على المتمردين الاستسلام. يصدق الوعد أبٌ وابناءه، لكن استسلامهم ينتهي بشنقهم، لينكشف أن الغاية هي استدراج المتمردين بهدف القضاء عليهم. عندها، يقرر نيوتن نايت تصعيد المعركة والخروج إلى معقل القوات، فيخدع القائد الجنوبي بخروج النساء في موكب جنازة، ثم تنكشف التوابيت ليظهر مقاتلون مسلحون، وتشهر النساء الأسلحة من تحت أرديتهن، ويظهر قناصون مختبئون، ويحاصر نيوتن القائد الجريح في كنيسة ليعدمه خنقاً بحزام بنطاله كما أعدم رفاقه غدراً. يصل الفيلم إلى ذروته، ويعلن نيوتن نايت مقاطعة جونز أرضاً مستقلة، غير خاضعة للجنوبيين، ولا منضمة للشماليين، بل لها دستورها الذي يلخص مبادئه بكلمات بسيطة جداً، أولها أنه لا يسمح للفقير أن يُستغل من قبل الغني، وألا يجبر أحد آخر على شيء. تعزز تلك المبادئ الاشتراكية المساواة في الحقوق والواجبات، وتنبذ التفرقة بين أبيض وأسود، وبين ذكر أو أنثى. تصمد مقاطعة جونز، وتصبح مثلاً أعلى. لكن انتهاء الحرب يعيد منح الإقطاعيين المعلنين عن ندمهم صلاحيات جديدة واسعة بعد انصياعهم للدستور الجديد، فيعودون لاستغلال الزنوج في مزارعهم وأطيانهم، وتعود الثورة للنشوب، ويعود القمع. يرفض صديق نيوتن /موسى/ أن يأخذ الاقطاعي ولده الصغير ليعمل في مزارعه، فيساعده نيوتن على إنقاذه، ويواجه القاضي الغاشم، ويدفع دية عن الصبي. لكن جماعة /كوكلوكس كلان/ العنصرية، التي تظهر آنذاك، لا تتركهم في مأمن، بل تبدأ حملة خفية تحت جنح الظلام في اضطهاد السود، وتعدم صديق نيوتن الأسود شنقاً بصورة وحشية. يضطر نيوتن ورفاقه ثانية إلى إشهار السلاح دفاعاً عن حقوقهم المنتهكة. خلال ذلك، تنمو قصة الحب بين نيوتن والصبية السوداء، فيتزوجها وينجب منها صبياً، لكن الغريب أن زوجته البيضاء تنضم إليه مع طفلهما الذي أصبح صبياً صغيراً، ولا تمانع أن تعيش مع ضرتها السوداء وطفلها. الأغرب أن الفيلم ينتقل بنا إلى ما بعد 85 عاماً لنشهد محاكمة حول عدم شرعية الزواج من سوداء، وبالتالي عدم شرعية الأبناء والأحفاد المنحدرين من هذا الزواج المرفوض قانونياً. يعود الفيلم بنا إلى زمن أحداثه التاريخية في العام 1865، حيث نرى الانتخابات المزورة قد فصلت كي يفوز الديمقراطيون على الجمهوريين، تكريساً لرغبات ومصالح الطبقة الإقطاعية البيضاء، وهي حقيقة تاريخية شبه مغيبة عن أذهان الناس، فالفساد السياسي السائد آنذاك صادم فعلاً، والظلم الذي ساد قبل الحرب الأهلية يستمر مع تغير أشكاله، لتستمر معه المقاومة.
في الواقع، شارف فيلم "مقاطعة جونز المستقلة" (2016) على أن ينجح فنياً وتجارياً، ففيه كثير من مقومات ذلك، لكنه قصَّر عن ذلك، وعجز عن تحقيق أي من النجاحين تماماً، فاستحق تقديراً قدره 6.5 درجة. من الناحية الفنية، فاجأنا السيناريو بذلك الانتقال الزمني عبر مشاهد تقل عن أصابع اليد الواحدة إلى زمن حديث في محاكمة لا معنى لها ضمن سياق الفيلم، لأن موضوعه هو حركة تمرد على ظلم، وليس شرعية الزواج والانجاب من امرأة سوداء رغم زواج مستمر بامرأة بيضاء. لو بدأ الفيلم بالمحاكمة، وكانت قصة الحب تلك هي قضيته، لربما اختلف الأمر. لكن هذا الموضوع الطارئ بدا مقحماً وخارج السياق، خاصة وأن السيناريو لم يبرز أية مشاهد عاطفية تُذكر بين نيوتن والصبية السوداء. أما من الناحية التجارية، فالفيلم طويل أكثر من اللزوم، (امتد ساعتين وثلث الساعة،) وكان ممكناً اختصاره ليصبح أكثر تشويقاً وإمتاعاً. لكن النقيصة الأكبر – لوجه الغرابة – جاءت من حرص المخرج وكاتب السيناريو على الالتزام بالنزعة التاريخية التسجيلية على حساب الدراما. لذلك، وصل الفيلم إلى ذروته، ثم انحدر بصورة مطولة ومملة لمجرد أن يزودنا بوثائق عما جرى في الحقبة التالية للحرب الأهلية الأمريكية. يحتفظ التاريخ بقيمته وأهميته، لكن المبالغة في الالتزام بحرفيته هي ألد عدو للدراما. إن الدراما الناجحة تنهل من التاريخ ما يفيد في الاقناع بمقولة معينة. مشكلة فيلم "مقاطعة جونز المستقلة" هي التوسع والإسهاب لتأكيد عدة مقولات معاً في عرض تاريخي بحت، مما شتت الدراما وأضعف تأثيرها العاطفي.
الحق يقال، أبدع ممثلو الفيلم في أدوارهم جميعاً، يتصدرهم ماثيو ماكونوهي في دور نيوتن نايت، وهو حائز أوسكار أفضل ممثل من قبل، والممثل القدير الذي اختار الابتعاد عن صورة النجم الوسيم التجارية لتجسيد شخصيات تتطلب تقمصاً تاماً يكرس القبح أكثر من الوسامة. كما لمعت الممثلة الشابة السوداء غوغو مباثا-رو بشكل مدهش في دورها بعد نجاحها في الفيلم الكلاسيكي "حسناء"، وأعتقد أنها نضجت لتصبح مرشحة جديرة بالمنافسة على أوسكار أفضل ممثلة مساعدة. كذلك، لا بد أن نشيد بكبح جماح النفس من قبل كيري راسل في دور زوجة نيوتن البيضاء، والأم التي تكافح للحفاظ على عائلتها وسط كل المصائب المحدقة بها. كما تألق الممثل السود ماهرشالا علي في دور موسى، صديق نيوتن وسنده الذي قضى شنقاً لتمرده على السلطة وحفاظه على حرية ولده في حقبة ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية، التي أعادت إلى الاقطاعيين نفوذهم، وأحيت الرق بصورة جديدة. أبدع مدير التصوير بينوا ديلوم في إضفاء جمالية مصحوبة بمصداقية تسجيلية على أجواء الفيلم، وساعدت على ذلك المونتيرتان باميلا مارتن وجولييت ويلفلينغ، فضلاً عن الموسيقا المتميزة التي ألفها نيكولاس بريتل. فيلم "مقاطعة جونز المستقلة" (2016) فيلم جاد لا يعوزه الإتقان، سواء من ناحية الإخراج أو التمثيل أو التقنيات، لكنه بالغ في انتهاج النزعة التاريخية التوثيقية، فأضاع قدراً هاماً من الدراما، بحيث تثاقل إيقاعه، وبهتت نهاياته. لكنه، بالمقابل، قدم شخصية وموضوعات غاية في الأهمية، كاشفاً عن لطخ معتمة شابت التاريخ الأمريكي لطالما تم تجاهلها والتغاضي عنها في عصرنا الراهن.