آفاق سينمائية ـ فؤاد مسعد :
يأبى على نفسه أن يكون موقع شفقة من أحد على الرغم من امتلاكه موهبة حقيقية فسبق له أن قدم مجموعة من الأدوار التمثيلية التي أشاد بها كثيرون ، ولكنه يؤمن أن لكل مجتهد نصيب ، وأن المبدع الحقيقي لا بد أن تُقدم له الفرص ، فكيف الحال إن كان متسلحا ًبالدراسة الأكاديمية إلى جانب موهبته ؟..
هي ليست قصة خيالية أو افتراضية وإنما هي مُقتنصة من صميم الواقع المؤلم لمهنة استباحها كثيرون ووجد فيها البعض (دكان) لزبائنه ، إنه واقع يعاني منه الكثير من الفنانين المهمشين ، وهنا لن نقول أنهم كلهم يتمتعون بالسوية نفسها من المهنية ولكن هناك حدود لا يهبطون عنها أو لنقل أن من تتاح له الفرص المتكررة وبغزارة هو ليس بأفضل منهم ولعله أدنى موهبة ، ولكن يبدو
أن الشروط الطبيعية لاختيار ممثل لدور معين قد تبدلت من مدى ملاءمته للشخصية ومقدار موهبته وأخلاقه وآلية تعامله مع فريق العمل .. وباتت تخضع للعلاقات الشخصية وربما الاملاءات أحياناً وللمصالح أحياناً أخرى . ما نذهب بالحديث عنه هو ظاهرة بدأت تتنامى وتتكاثر في الوسط الفني وما جعلها تطفو على السطح وتظهر بشكل جلي تقليص عدد المُنتج من الأعمال الدرامية في السنوات الأخيرة ، فعلى الرغم من سفر العديد من النجوم والفنانين وإقامتهم خارج البلد وبالتالي هجرهم للعمل الدرامي المصور داخل سورية إلا أن ذلك لم يشكّل دافعاً لإعطاء الفرصة الحقيقية لصاحبها الذي يستحقها إلا فيما ندر ، فما جرى أن الساحة باتت واحة يستثمر فيها من يريد ويستقطب إلى عمله من يريد ضارباً بعض الحائط تقاليد هذه الصناعة وأهمية اختيار الفنان المناسب للدور .
ولكن ذلك كله لا يعني بحال من الأحوال أن هذا هو الواقع الحالي لعموم الفنانين ، وكي لا يتصيد المتصيدون في الماء العكر نعود ونؤكد أن هناك فنانين سوريين مبدعين يعتبرون سفراء فوق العادة ويقدمون أعمالاً هامة ويبذلون جهوداً خلاقة ومثمرة للارتقاء بالعمل الدرامي وبالواقع الفني السوري ، إلا أن هذا الكلام لا يعفي من وجود فنانين آخرين هم على شفير خط الفقر ، كانوا ولايزالون خارج إطار الشللية والمحسوبيات ، قد يستذكرهم مخرج دون غيره أو يسند إليهم دوراً كيفما اتفق ، في الوقت الذي تمطر فيه العروض والأدوار فوق رأس فنانين بعينهم يخضع بعضهم لمبدأ أطلق عليه البعض (الشللية الحميدة) أي مجموعة العمل المتفاهمة فيما بينها والمتكررة دائماً بحجة أنهم ليسوا متقوقعين على ذاتهم ضمن المفهوم السلبي للشلية وإنما هناك هاجس إبداعي يؤرقهم ويجمع فيما بينهم في كل عمل !..
هناك من تمر أمام ناظريه المواسم الإنتاجية وهو لايزال ينتظر أن يطلبه مخرج أو شركة إنتاج إلى عمل وإن بدور ثالث أو رابع ، فقد كانت له مشاركات كثيرة سابقة وأثبت أنه يستطيع أن يُقنع فيما يُقدم من شخصيات ، إلا أن أحداً لم يطرق بابه منذ مدة !.. يحاول أن يذهب إلى نقابة الفنانين لعله يجد وسيلة للعمل ، ويجرب أن يُهاتف أحد مدراء الإنتاج ليذكّره بوجوده لعله يقول له أنه يريد ممثلاً لدور صغير ، لا بل يذهب أحياناً إلى أبعد من ذلك بعد أن يتجرع قدراً من الشجاعة فيهاتف المخرج قائلاً له (أنا هنا ..
إن كان لديك دور مهما كان صغيراً فأنا منذ مدة أجلس في منزلي دون عمل) فيأتيه جواب المخرج الدبلوماسي المعهود (يا الله لو كنت قد تذكرتك لشاركت في مسلسلي ولكن للأسف فمجموعة العمل لدي مكتملة ، ربما في مسلسلي الذي سأخرجه في العام القادم أجد لك دوراً) ..
وللعلم أن هناك العديد من الممثلين المسجلين في نقابة الفنانين بحاجة إلى دور هنا أو هناك ، ودائماً حجة المنتج أو المخرج معروفة ، فهم كما يقولون لا يشغّلون إلا من يجدونه كفء ، ولكن أليس من بين هؤلاء أكفاء ؟.. وهل من المعقول أن عدد الأعمال المُنتجة لا يتسع لأغلب الفنانين ؟ رغم أن هناك مسلسلات تحتاج لعدد كبير من ممثلي الأدوار الصغيرة ، تلك الأدوار التي نُفاجأ أحياناً أنها تحط عند ابن عم مدير الإنتاج أو ابن خالة المخرج أو جار البطل أو صديقة ابن المنتج أو .. دون أن يكون لهم باع في العمل الفني ، لا بل المفارقة أنه في الوقت الذي يشتكي فيه مخرج قلة الممثلين قائلاً أنه ليس هناك عدد كافٍ منهم لذلك يضطر إلى تكرار الوجوه نجد أن هناك فنانين بلا عمل ، ولكن الطامة الكبرى نجدها لدى الفنانين المقيمين في المحافظات خارج العاصمة فالعديد منهم هناك ينتظر أن يصوّر مسلسل في محافظته لعله يحظى بدور يظهر من خلاله على الشاشة ليقول في قرارة نفسه (أخيراً ظهرت على الشاشة بعد طول انتظار) .. والسؤال : هل يمكن أن يسود شيء من العدل في الاختيار خاصة أن هناك من اختار هذا الطريق وهو ليس بقادر أن يعمل في مهنة أخرى غير الفن ؟..
هذا الواقع لم يأت وليد صدفة وإنما وجد نتيجة تراكمات عبر سنوات مضت فرضتها تقاليد وأعراف إنتاجية تتفق مع رغبة المنتج وأهوائه ومصالحه وعلاقاته ، عموماً يمكن إدراج ما تم الإشارة إليه تحت بند الأمراض التي تعاني منها الدراما السورية ، ومنها أيضاً بعض الآليات المغلوطة في التعامل مع الممثلين ، فعلى سبيل المثال هناك صناع أعمال لا يعطون الممثل النص كاملاً وإنما يفرغون له دوره ويعطونه حوار شخصيته فقط ليقع الممثل في الفخ عند عرض المسلسل ويكتشف مدى سخفه وسذاجته ، في حين أنه شريك حقيقي ضمن العمل الابداعي ومن حقه الاطلاع على النص كاملاً ، كما أن الكثير من الممثلين يشتكون من بنود العقد المبرم معهم ، لا بل هناك شركات لا تعطي الممثل أصلاً صورة عن العقد وتحتفظ بالنسختين لديها ، ناهيك عن موضوع التأمين على الممثلين إن أصابهم مكروه أثناء التصوير ، كما أن هناك فنانين كثيراً ما يشتكون من عدم قدرتهم تحصيل كامل حقهم المادي من قبل الجهة المنتجة ، والطامة الكبرى عندما لا يكون هناك رادع في التعامل على الصعيدين المهني والأخلاقي كأن يتم الاتفاق المبدئي مع فنان وفجأة يعرف أن المسلسل انطلق تصويره من دونه وقد ذهب الدور إلى فنان آخر دون أن يتم الاعتذار منه أو إعلامه على أقل تقدير ، ويحدث أيضاً أن يختلف المنتج مع نجمة حول الأجر فيأتي بممثلة عادية (أو أقل) ويوهمها أنه يعيطها فرصة عمرها في دور هام كان من المفترض أن تؤديه نجمة مما يجعلها تقبل بأي أجر مقابل الظهور بشخصية بطولة والنتيجة هبوط مستوى العمل ككل لأن طبيعة الدور كانت تحتاج إلى النجمة فعلاً .
ربما تصب مجمل تلك الأفكار حول تقاليد إنتاجية وأعراف مهنية حاول البعض حرفها عن مسارها الطبيعي ضمن صناعة ضربت جذورها عميقاً في الأرض حيث بنى الرواد أساسها ولكن ليشيد البنيان بشكل جيد لا بد أن تُتابع المسيرة كما بدأت وبالإيمان والإصرار نفسه ، متعالين عن الكثير من صغائر الأمور بغية الوصول بالصناعة الدرامية إلى آفاق أهم وأرحب ، وهذا لا يتحقق من خلال إنجاز مسلسل ناجح هنا أو حتى عدد من الأعمال الجيدة ، فهي ليست صيغة فردية في التعامل وإنما هي آلية متكاملة ومتراصة لصناعة درامية قائمة بحد ذاتها ، تحتاج إلى تضافر الجهود وإبعاد الدخلاء على المهنة والمسيؤون الذين ارتضوا أن يسخرونها لمصالحهم الشخصية الضيقة . وبما أن الممثل هو الحامل الأساسي الذي ينقل للمشاهد مقولات العمل وأهدافه فلا بد أن تتوفر له الشروط لتحقيق النجاح وأن يوضع في مكانه المناسب ليحقق أكبر فائدة مرجوة مما يقدم .