"ماداري" أو "لاعب العرائس"



د. رياض عصمت

    تكمن أهمية الفيلم الهندي الجديد "ماداري" أو "لاعب العرائس" (2016) في موضوعه وأسلوب معالجة السيناريو أكثر من ميزاته التقنية. إنه فيلم تشويقي بامتياز، خلفيته سياسية، وموضوعه إنساني يلامس قلوب جميع الشعوب. اقتبست القصة عن حادثة حقيقية قام بتأليف قصتها شيلجا كيجرويوال، وكتب السيناريو والحوار لها ريتيش شاه، بينما تصدى لإخراج الفيلم نيشيكامت كامات.

    تبدأ القصة بعرض لقطات تسجيلية مستقاة من نشرات الأخبار حول انهيار جسر كبير ومقتل العديد من المواطنين الأبرياء سحقاً تحت أنقاض الاسمنت والحديد. ينتقل بنا الفيلم إلى مدرسة داخلية للأطفال نرى بين طلابها صبياً صغيراً هو ابن وزير مهم في الحكومة الهندية. يتابع الفيلم مشواراً للصبي ورفيقه في أرجاء المدينة بينما يراقبهما عن كثب رجل ملتحٍ في ثياب شعبية، ثم نراه يدس لهما مخدراً، ويختطف ابن الوزير. من هنا تبدأ حبكة الفيلم، فالرجل الخاطف يدعى نيرمال كومار، وهو ليس مجرد مجرم عادي يطلب فدية، بل هو أبٌ مفجوع بمصرع ولده سحقاً تحت أنقاض الجسر مغشوش البناء، بحيث يريد الانتقام بفضح الحقيقة للملأ، وهو ذكي بحيث يستطيع الإفلات من جميع قوى الأمن التي تطارده، وعلى رأسها ضابط بارع وقدير. يلعب الاثنان لعبة القط والفأر، وينجو  نيرمال كومار بالصبي من جميع الأفخاخ للايقاع به وتحرير أسيره المخطوف، ابن المسؤول رفيع المستوى. من جهة، يوهم الخاطف الصبي الصغير بأنه إذا هرب، فإن أعوانه سيذبحون صديقه، (بالرغم من أنه أطلق سرتح الصبي الآخر،) فيحجم المخطوف عن الفرار. ومن جهة أخرى، يتصل بالوزير طالباً كشف حقيقة الفساد الذي أدى إلى مصرع ولده الوحيد مقابل أن يستعيد ولده. ينتقل الخاطف والطفل في أرجاء الهند بوسائل نقل مختلفة، ويمران بمصاعب ومتاعب وسط مطاردات عنيفة من الشرطة، ولكن تنشأ بينهما عبر تلك التجربة صداقة ومودة، بل ينقذ الخاطف الطفل من مرض معوي ألَّم به نتيجة شربه ماءً غير معقم، ويعتني به كأنه ولده. أخيراً، يتمكن نيرمال كومار من الوصول إلى شقة آمنة مع الصبي، ويهيئ فيها جرتي غاز للانفجار مشترطاً أن يجري التلفزيون معه ومع جميع المسؤولين عن حادثة انهيار الجسر مناظرة منقولة على الهواء مباشرة، وإلا فإنه سينسف البناء بنفسه وبالطفل. يهرع الوزير مع عدد من كبار المهندسين والمسؤولين عن بناء الجسر بمواصفات غير صحيحة، تنفيذاً لطلب الخاطف، كي يجروا اللقاء التلفزيوني المفتوح الذي سيديره مذيع مشهور، بينما يحتشد رجال الشرطة والجيش بالمئات خارج البناء، وفي مقدمتهم الضابط البارع، الذي أسقط في يده ولم يعد يستطيع فعل شيء. أما حشود الناس، فتراقب أجهزة التلفزيون لسماع الحقيقة من أفواه المسؤولين. يستجوب نيرمال كومار أولئك المسؤولين واحداً فواحداً وهو يلوح بمسدس في يده، مهدداً بنسف المكان كله بجرتي الغاز إذا حاولوا الكذب. بالفعل، تبدأ الحقائق بالتكشف على ألسنتهم، فثمة تلاعب جرى في تنفيذ الجسر من قبل المتعهد وسواه بسبب دفع رشوات للحزب وللمسؤولين، الأمر الذي نجم عنه انهيار الجسر ووقوع هذا العدد الكبير من الضحايا الأبرياء. يركع الوزير باكياً مناشداً الخاطف الصفح عن ابنه وعدم إيذائه، فيسأله إن كان فكر بهذا تجاه ولده الوحيد الذي لم يجد له جثة يستلمها، بل مجرد أشياء من ذكراه. بعد أن يتم الاعتراف على الهواء مباشرة، يطلق نيرمال كومار سراح الجميع، ويسلم الصبي المخطوف إلى والده، وقد ارتاحت نفسه. لكن الطفل، قبل أن يخرج، يترك يد أبيه ويعود مندفعاً ليعانق الخاطف الرحيم الذي اعتنى به، معبراً عن عاطفة جياشة تجاه مأساته. يقود الشرطة نيرمال كومار مخفوراً بين حشود الجماهير ليحاكم على فعلته، لكننا ما نلبث أن نراه في لقطة أخيرة مصحوبة بأغنية حزينة بعد أن سمح له الشرطة أن يلقي بما تبقى من أشياء ولده الفقيد في البحر، بعد أن توصل إلى مصالحة مع نفسه، وأرضى وجدانه بفضح حقيقة فساد الحكومة والحزب للناس أمام الإعلام، فانتقم لما تعرض له ولده وسواه من الضحايا الأبرياء عند انهيار الجسر.

    قام بتصوير الفيلم آفيناش آرون، وبمونتاجه عارف شيخ، وتميزت الموسيقا التصويرية والأغاني المؤثرة التي ألفها سمير فاتربيكاو. واللافت للنظر، إن فيلم "ماداري" (2016) خلا من الرقصات والأغاني الاستعراضية التي تعتبر من البهارات الأساسية للسينما البوليودية. لا شك أن الفيلم استند بشكل أساسي إلى شهرة وخبرة النجم الهندي العالمي عرفان خان، الذي سبق أن أدى أدواراً مهمة في أفلام أمريكية وبريطانية مثل "حياة بي"، "العالم الجوراسي" و"مليونير الأحياء الفقيرة". هنا، يلعب عرفان خان في بيئته، وبلغته الأم، دوراً بالغ الحساسية والتركيب. فمخرج الفيلم، نيشيكامت كامات لم يستسلم للنزعة التجارية المألوفة، فليس في الفيلم معارك بالقبضات أو رقصات واستعراضات أو حتى كوميديا، بل هناك معالجة رصينة وصارمة لقصة حقيقية، مرفقة بقليل من اللمسات التقليدية عبر استخدام الموسيقا والغناء كخلفية للأحداث فقط. تجنب المخرج أيضاً استعراض العضلات، وأية لمسات جمالية لتزيين البيئة الفقيرة كما جرت العادة المألوفة في السينما البوليودية، مصمماً على تقديم موضوعه بمصداقية وإقناع. بدوره، أجاد الطفل فيشيش بانسال تقمص دور الصبي المخطوف عبر انتقاله من الخوف على نفسه من الغريب، ثم على مصير صديقه الذي اعتقد أنه أسير، قبل الاطمئنان إلى سلامة نية الخاطف، وأخيراً إلى التعاطف معه كإنسان فجع بفقدان عزيز بسبب الاستغلال والرشوات والفساد. كما عامل السيناريو والإخراج باقي الشخصيات - وفي مقدمتها الوزير وضابط الشرطة – بقدر كبير من الرصانة والاتزان، راسمين إياها بظلال رمادية، وليس بالأسود والأبيض، وموجهين مؤديها إلى الالتزام بتلك المقاربة الفنية. بالتالي، ليس هناك شرير فاقع الشر في الفيلم، وليس هناك بطل ساطع النقاء. يتفتح مسار الحبكة تدريجياً على مواقف وحقائق تحدد التأثير المطلوب، والذي هو عقلي بقدر ما هو عاطفي. استحق فيلم "ماداري" تقييماً وصل إلى 8.3 درجات.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية