د. رياض عصمت
إنه فيلم متميز من أفلام العائلة، يقود الأطفال أهلهم إليه، وربما يدفعونهم إلى تكرار مشاهدته مرات عديدة. أثبت "بادينغتون" شعبية مثل هذه الأفلام البريطانية ذات الطراز العائلي في الولايات المتحدة، فلم يسبق لي أن رأيت صالة السينما تغص بالحضور كما مع افتتاح هذا الفيلم. إقبال منقطع النظير، وتجاوب من الكبار قبل الصغار ضحكاً وتعاطفاً وخشية على مصير الدب الصغير المهاجر خلسة على متن سفينة من الجانب المظلم من بيرو إلى لندن بحثاً عن المستكشف الذي صادق عائلته، بعد أن أضحى يتيماً. بالصدفة المحضة، يتعرف الدب على العائلة الإنكليزية المؤلفة من أب وأم وابنة وولد في محطة بادينغتون للقطارات، والأم هي من تطلق عليه ذلك الاسم، الذي يميزه مع القبعة الحمراء المهترئة العائدة للمستكشف القديم، والتي يأمل أن تهديه إلى أثره. بالمقابل، نتعرف على مديرة متحف التاريخ الطبيعي (نيكول كيدمان) المهووسة باقتناص الدب النادر لتحنيطه وإضافته إلى مجموعتها في ذلك المتحف.
أخرج فيلم "بادينغتون" (2014) المخرج بول كينغ، كما شارك في كتابة السيناريو له مع هاميش ماكول، ولا شك أنه نجح في المهمتين. الفيلم ممتع للغاية، رغم أن كل شيء مألوف فيه ومتوقع إلى درجة كبيرة. يبدأ ذكاء اللعبة من اختيار الشخصيات بشكل متباين جدا إلى درجة التناقض، كما ينمو تصاعدياً من خلال المواقف الطريفة التي يزج بها الدب الصغير النادر، الذي يتكلم الإنكليزية بطلاقة (أدى حواره صوتياً الممثل البريطاني الشاب بن ويشو.) إنها عائلة بريطانية نموذجية، لا تفاهم فيها بين الابنة والابن، ولا بين الزوجة والزوج، لكن وجود الدب ما يلبث أن يخلق تدريجياً تفاهماً بينهم. صحيح أن يوم دخوله الأول يعج بالكوارث، من تنظيف أذنيه بفرشاتي أسنان، إلى فيضان الحمام بالماء ليغرق البيت كله، إلا أن الدب بادينغتون يتمكن بالصدفة من الإمساك بنشال حير بوليس لندن، ويكتسب شعبية شديدة تجعله مثار فخر العائلة. أما الجار ثقيل الظل، فيتورط بالتآمر مع مديرة متحف التاريخ الطبيعي للإيقاع ببادينغتون ضحية لعقدتها النفسية. يشعر بادينغون بالثقل الذي ألقاه على عاتق العائلة الطيبة، فيذهب ليبحث بنفسه عن المستكشف الذي وعد أهله باستضافته في أي زمان. وبعد جهد مضن، يقع بادينغتون على منزل ابنة المستكشف، فإذا بها ليست سوى مديرة المتحف التي تترصده وتسعى للإيقاع به. بينما تسوق المرأة القاتلة بادينغتون إلى المتحف وتخدره تمهيداً لتحنيطه، في الوقت الذي يشي به الجار للعائلة بالشر المزمع ارتكابه تجاه الدب اليتيم، فيهرعون إلى المتحف لإيقافها. تتسارع أحداث الفيلم، تثير مشاعر الصغار، وتحمس حتى الكبار، إلى أن تجري المواجهة الكبرى بين العائلة المدافعة عن بادينغتون والمرأة القاسية التي تحاول التعويض عن إنسانية والدها المستكشف برفضه اصطياد دببة كل ذنبها أنها تتكلم الإنكليزية وتعيش في بلد ناءٍ كالبيرو. ينتهي الفيلم نهاية سعيدة، إذ يقهر الشر وينتصر الخير، ويهنأ الكبار والصغار بمصير الدب بادينغتون السعيد.
في الواقع، أفلح منتجو سلسلة "هاري بوتر" في الخروج بفيلم عائلي متميز للغاية، إذ يوحي مضمونه الخفي بما هو أعمق بكثير من حكاية دب مهاجر. إن الحوار يشي بتعاطف إنساني مع كل المهاجرين الباخثين عن ملاذ آمن وقلب عطوف. هل يقبل المجتمع البريطاني المحافظ الغريب القادم من مجاهل بلد بعيد، أم يرفضه؟ هل يثبت الغريب أهليته للثقة بالرغم من السذاجات والمقالب التي يقع فيها مسبباً قدراً كبيراً من الفوضى والضرر المادي؟ إن الدرس الذي يخلص إليه فيلم "بادينغتون" أن أفراد الأسرة فرداً بعد آخر يتحولون إلى مخلوقات أفضل وأكثر إنسانية بوجود الدب الصغير النادر، بحيث يصطفون سداً منيعاً للذود عنه والدفاع عن أمنه وسلامته عندما تهدد حياته مهووسة متحف التاريخ الطبيعي وابنة المستكشف الراحل غير البارة لمسيرة أبيها ومواقفه النبيلة. يتضمن فيلم "بادينغتون" أمثولة من الحكمة الإنسانية الخفية وراء سطح طفوليته العابثة والمضحكة، مما يرفع مستواه، ويمنحه في النهاية عمقاً غير متوقع. أدى أدوار الأسرة في فيلم "بادينغتون" كل من الممثلة الموهوبة سالي هوكينز في دور الأم، هيو بونيفيل في دور الأب، صامويل جوسلين في دور الصبي جوناثان، ومادلين هاريس في دور المراهقة جودي، ودور العجوز الممثلة القديرة جولي وولترز. كما أدى دور الجار بيتر كابالدي، ودور العم باستوزو الممثل المسرحي القدير مايكل غامبون، في حين تصدت النجمة الشهيرة نيكول كيدمان بحضور لافت لدور مديرة متحف التاريخ الطبيعي المهووسة باصطياد الدب الصغير المهاجر وتحنيطه. أما صوت الدب بادينغتون فأداه الممثل الشاب بن ويشو. قام بتصوير الفيلم إريك ويلسون، وبمونتاجه مارك إيفلسون، ووضع الموسيقا التصويرية له نيك أوراتا. "بادينغتون" فيلم العائلة بامتياز للعام 2014، ورغم أنه ليس من أفلام الجوائز، إلا أنه بلا شك حظي بجائزة الإقبال الجماهيري منقطع النظير.