ذكريات السينما

الإصدار: العدد مائة أربع و اربعون

ذكريات السينما

 

رياض عصمت

منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما (101)

في مقتبل العمر، كانت السينما طقساً اجتماعياً، يعد ناقص الثقافة من لا يأبه، بل لا يحتفي به، كانت العائلات، بشيبها وشبابها، تزدحم، وأفرادها في قمة الأناقة، لحضور فيلم جديد سبقته سمعته الطيبة، أو زينت الإعلانات أسماء وصور نجومه اللامعين، منذ طفولتي المبكرة دأب أبي وأمي على أن يصطحباني إلى السينما كل أسبوع، كانت سينما "دمشق" هي المفضلة لديهما، لأنها كانت تعرض أفلاماً عربية جديدة ومشهورة، وأذكر أنني أول ما بكيت في السينما، بكيت خلال فيلم لفريد الأطرش، ليس تأثراً، بل تململاً، لأن سنوات عمري الخمس لم تكن تسمح باستيعابي وتجاوبي مع تلك الميلودرامات العاطفية التي تعصر المناديل من الدموع لأجلها، في البداية كنت أذهب مع أبي وأمي، ثم بعد انقطاعها عن الذهاب لأسباب صحية، صار يأخذني جدي إلى السينما بانتظام صباح يوم العطلة الأسبوعية الجمعة، وبعد أن أصبحت أختي في سن ارتياد السينما، صرنا ثلاثة، ثم حين ولد أخي وكبر إلى عمر السينما، صرنا أربعة. كثيراً من الأحيان كان أبي يختار دار سينما تعرض فيلمين دفعة واحدة، كي يعوض تزايد عددنا بكسب عدد أكبر من الأفلام، فنتحمل على مضض الفيلم الاجتماعي/ العاطفي في انتظار فيلم الكاوبوي أو الفروسية الذي نحب، لنعود إلى الغداء بشهية مفتوحة، ونتشمم عند اقترابنا من الدار رائحة الشواء على منقل الفحم الذي تقوم به "الدادة" في باحة الدار، قرب البحيرة ذات النافورة، ارتدنا جميع دور السينما تقريباً آنذاك حتى سينما "عائدة" اضطر أبي إلى أخذنا إليها، رغم أنها كانت محتقرة ولا تؤمها العائلات، لأن أحد أفلام طرزان يعرض فيها. كان طرزان بطلاً مفضلاً لدي، وشاهدنا آنذاك من الطرزانات عدداً لا يستهان به، تراوح بين لكس باركر، وغوردن سكوت، وقبلهما جوني ويسملر (المفضل عند والدي، الذي دأب أن يروي لنا سيرة حياته، وكيف تحول من فتى نحيل إلى رياضي ممشوق القوام أصبح بطل أولمبياد قبل أن يصبح نجماً سينمائياً. وذلك بفضل السباحة، تلك الرياضة المغرية التي حكى لنا والدي كيف تعلمها بجرأة في نهر بردى أيام شبابه، ولكن كان من الصعب أن نتعلمها نظرياً على الحضور من خلال تلك الحكاية). كانت المشكلة في سينما "عائدة" أن الأفلام كانت تعرض فيها مسلسلة، بحيث صرنا نلح أن نعود إليها في الأسبوع القادم لنشاهد بقية الفيلم، وبالتالي نعلق بغيره، لأن ذكاء صاحب الصالة التجاري كان يجعله يعرض الجزء الأول من فيلم، والجزء الثاني من أخر، والجزء الثالث من غيره – وجميعها مشوق – ليجذب الزبائن على ارتياد صالته دون غيرها أسبوعاً تلو الآخر. لكن أبي سرعان ما مل، خاصة مع مستوى الجمهور المتدني الذي كان يدخن الأراكيل خلال العرض ويفصفص البزر، فأقلعنا عن هذا التقليد بعد أن أغرانا بمشاهدة فيلمين دفعة واحدة بالبطاقة ذاتها، وغالباً ما تحقق ذلك في سينما "بلقيس" (مكان "الكندي" حالياً). أما النمط الثاني الذي استهوانا بعد أفلام طرزان، فكل أفلام (الكابوي) – كما كان نسميها، قبل شيوع مصطلح (الوسترن) – وأغلبها كان من بطولة غاري كوبر وجون وين وجيمس ستيوارت وريتشارد ويدمارك وروري كالهون وجيمس غاردنر وبرت رينولدز، ولكن هوليوود لم تكرس نجماً لم يلعب بطولة فيلم كاوبوي أو أكثر. ومنهم كلارك غييل وروبرت تايلور وكيرك دوغلاس وبرت لانكستر وآلان لاد ويول براينر ووليم هولدن وهنري فوندا وتوني كورتيس، وألان ديلون وتشارلز برونسون، وحتى روك هدسون – كان ذلك قبل ظهور كلينت إيستوود وفرانكو نيرو وكل نمط (سباغيتي وسترن). كبرنا وصرنا شباباً، وتطور ذوقنا فصرنا نهتم بالجميلات، أمثال مارلين مونرو وصوفيا لورين وأودري هيبورن وإنغريد برغمان وغريس كيلي وكيم نوفاك وآفا غاردنر وجين سيمونز وإليزابيث تايلور وجنيفر جونز وناتالي وود وسوزان هيوارد وريتا هيوارث ولسلي كارون، وحتى شيرلي ماكلين ودوريس داي اللتين تمتعتا بروح المرح والاستعراض. هنا، جاء عهد سينما التشويق والإثارة، ولمع اسم ألفريد هتشكوك بين المخرجين، وخاصة عبر فيلم "سايكو" (أو "نفوس معقدة" كما سمي في تلك الأيام). وتعلقنا بنجمة أنتوني بيركنز وضحيته التي قتلت طنعاً في بانيو الحمام جانيت لي.

الغريب أن بيركنز لعب أيضاً بطولة أفلام اجتماعية ضاحكة، واحد منها بطل كرة سلة، فانضم إلى لائحة النجوم الآخرين المحبوبين تلك الأيام: مارلون براندو، كاري غرانت، غريغوري بيك، غلين فورد، برت لانكستر، كيرك دوغلاس، مونتغمري كليفت، جيمس ستيوارت، لورنس أوليفييه، دين مارتن، فرانك سيناترا، إلك غينيس، جاك ليمون، أنتوني كوين، بول نيومان، وارن بيتي وروك هدسون وتشارلتون هستون وريتشارد بيرتون وريتشارد هاريس. في أواخر الستينيات، كانت سينما "دنيا" خاصة مشهورة بالسبق في استحضار الأفلام الاجتماعية والكوميدية الجيدة، ولكنها كانت على تنافس دائم مع سينما "الأمير" و"الفردوس" و "بلقيس"، وكان بعضها يعرض فيلمين دفعة واحدة، أما سينما "الأهرام" فكانت تطبع برنامجاً مصوراً دعائياً لأفلامها القادمة. وعندما افتتحت بالتتالي سينمات "الزهراء" و"العباسية" و "السفراء". باستعراض إضاءة ملونة مبهر بالنسبة لجمهور تلك الأيام، دخلت مضمار المنافسة، بينما لم تصمد "الخيام" و "راميتا" طويلاً عندما افتتحتا في زمنين لاحقين. كانت بعض الأفلام الضخمة الحديثة تشترى لتعرض في صالتين معاً. لتنتقل بكرات الفيلم من واحدة إلى أخرى، ثم تعاد بالتدريج إلى الأولى، وذلك لاستيعاب الجمهور الواسع المقبل على مشاهدة الفيلم.

وكان أبي ينتقل بنا من الصالتين قبل شراء التذاكر، لاختيار الصالة التي تعرض أولاً، إذ من الذي يضمن – حسب رأيه – أن تتأخر البكرة في الوصول على (البسكليت). أو يتعرض ناقلها لحادث فيتوقف عرض الفيلم. من تلك الأفلام، أذكر "تراس بوليا" من بطولة يول براينر وتوني كورتيس وكريستين كوفمان. في السبعينيات، برزت ثلاثة تيارات أثرت تأثيراً عميقاً في مخليتنا: "الواقعية الإيطالية الجديدة" عند مخرجين مثل دي سيكا وفيسكونتي وروزي وروسوليني وأنطونيوني وفيلليني وبازوليني و "الموجة الفرنسية الجديدة" عند مخرجين مثل غودار ولولوش ورينيه وشابرول وتروفو وفاردا، و "موجة الفيلم السياسي" كما في أفلام "ساكو وفانزيتي" و "زد" و"حالة حصار" وسواها. خاصة أعمال المخرج كوستا – غافراس. وبرز بين النجوم الذكور آنذاك طراز مختلف، مثل إيف مونتان، جان – بول بلموندو، مارشيلو ماستروياني، ميشيل بيكولي، روبرت حسين، جان – لوي تيرانتنيان، وبدايات داستن هوفمان وجاك نيكلسون وروبرت دو نيرو وآل باشينو وروبرت ردفورد. كما برز بين النجمات: آنا مانياني، جوليتا ماسيني، جين فوندا، رومي شنايدر، فانيسا ريدغريف وغليندا جاكسون، في تلك الفترة، تعرفنا على 007 العميل السري للاستخبارات البريطانية جيمس بوند مع ظهور "دكتور نو" من بطولة شون كونري، قبل أن يتولى الدور روجر مور وسواه. ومع تلك الفترة، لمع جان – بول بلموندو في أفلام مغامرات ضاحكة مثل "رجل من الريو" و "صيني في بلاد الصين" و "أزواج العام الثاني" كما لمع نجم الفرنسي جان ماريه في أفلام فروسية ومغامرات ذكرتنا بايرول فلين وستيوارت غرانجر وكورنل وايلد، حين لعب بطولة "معجزة الذئاب" و "الكابتن فراكاس" وسواهما. أما في المجال الكوميدي، فبعد تشابلن، تعرفنا تدريجياً على بستر كيتون وهارولد لويد، ثم ظهر النجم الإنكليزي نورمان ويزدم كخليفة لتشابلن، والأميركي جيري لويس مع دين مارتن، والفرنسي لوي دو فونيس. كان هناك نجوم كوميديا آخرون لهم شهرتهم الخاصة، مثل جاك تاني، وبروفيل، وجاكي غليسون، وبينر سيلرز، وودي آلان، وبيير رشار، فضلاً عن جون غليس وفريقي "كاري أون" و "ماونتب باثيون". بالمقابل، كانت هناك أفلام بوليسية رخيصة من طراز روايات (أرسين لوبين)، دأب على بطولتها الفرنسي أيدي كونستانتين. وكان هناك أفلام كاوبوي من الصنف الثاني لممثلين مثل إيدي مورفي، راوندولف سكوت، جيف تشاندلر وريتشارد غريناه، لكن بعضها فقط أنصف الهنود الحمر، في حين كان معظمها نمطياً في إظهار تفوق وعدالة الرجل الأبيض، أما في الصراع بين الطاغية المجرم والبطل الشريف، فالغريب أن قيماً موازية للاشتراكية كانت تقدم على أنها الصحيحة.

كان هناك أيضاً أفلام بوليسية ذات عمق نفسي أو إثارة وتشويق، مثل "انتظر حتى يحل الظلام" لأودري هيبورن، و"المصباح الغازي لإنغريد برغمان وتشارلز بواتييه، وأفلام من بطولة راي ميلاند، فان جونسون، فان هفلن، ديفيد نيفن، جيمس ميسون ودانا أندروز، أخيراً، كانت هناك أفلام استعراضية، من فريد آستير وجنجر روجرز وسيد تشاريس، إلى جيمس كاغني، إلى بنغ كروسبي، إلى حين كيلي ودونالد أوكونور في "الرقص تحت المطر" إلى ديك فان دايك وجولي أندروز في "ماري بوبنز" إلى آستير وليامز وسباحاتها الفاتنات في رياضة الرقص في الماء، ومن الأفلام التي تركت بصمتها علينا آنذاك فيلم "إيرما الجميلة" لشيرلي ماكلين وجاك ليمون، و"الكابتن بلود" لإيرول فلين.

 

 







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية