ىد. رياض عصمت
يحظى كل فيلم للمخرج ويس أندرسون لدى ظهوره بضجة كبيرة، فهو المخرج الأمريكي الأكثر شبهاً بعظماء المخرجين الأوربيين في حقبة الستينيات من القرن العشرين، وبالأخص الإيطاليين منهم. لذلك، أحدث فيلمه "فندق بودابست الكبير" ضجة كبرى حتى قبل عرضه، وترقبه الجمهور بشغف، ثم تكلل ذلك بعد عرضه بأن حاز خمس جوائز أوسكار في العام 2015، هي جوائز أفضل تصميم إنتاج، وأفضل تصميم أزياء، وأفضل أزياء، وأفضل مكياج، وأفضل موسيقا.
لا شك أن فيلم "فندق بودابست الكبير" (2014) فيلم فريد من نوعه، ومختلف في مقاربته عن الغالبية العظمى من الأفلام الأمريكية. هو فيلم من طراز الكوميديا-السوداء. كيف لا يكون كوميدياً وهو يبدأ برواية القصة من عجوز (لعب دوره ف. موري إبراهام، ذي الأصول السورية، وحائز الأوسكار عن دور سالييري في فيلم "أماديوس" للمخرج ميلوش فورمان،) عن مراهقته حين عمل حمال حقائب في فندق شهير يديره م. غوستاف بإخلاص وهوس، (لعب دوره النجم البريطاني الكبير رالف فاينس،) وكيف تلقن منه دروساً في شؤون الحب والحياة وسط أجواء الحرب القاسية؟
إن فيلم "فندق بودابست الكبير" فيلم بالغ الغرابة، فيه الكثير من العناصر التي تذكرنا بمسرح اللامعقول. يحفل الفيلم بالمواقف الطريفة التي تجمع بين مدير الفندق، وربيبه الأسمر اليافع الذي يتدرب القيام بمهنة العمل في الفندق على يديه. عبر علاقة المعلم والتلميذ، نتعرف على شخصيات تكاد توصف بالسوريالية، شخصيات كأنها خارجة من تحت ريشة رسام كاريكاتير. هناك ما يُضحك، إنما هو ضحك أسود مع رشقات الرصاص، أو وراء قضبان السجن، أو على جرف هاوية سحيقة تكاد أن تنهي حياة بطل أو أكثر. إن فيلم "فندق بودابست الكبير" أشبه ببحر، إما يشغف به المشاهد، ينخرط فيه، ويسبح مع تياره، أو يكرهه، ينفر منه، ويهرب من شاطئه. لكن الطريف والمميز في "فندق بودابست الكبير" أنه فيلم لا يروى، بل يُشاهد. إن قصته لا يمكن تلخيصها، وشخصياته تعصى عن الوصف. صحيح أن أصله الأدبي من تصور ستيفان زفايغ، لكن الفيلم أقرب إلى "زوربا" لكازانتزاكيس أو "المعلم ومرغريتا" لبولغاكوف. كثير من الأجواء التي خلقها ويس أندرسون بحنكة ومهارة تذكر بلوحات الانطباعيين من الرسامين الفرنسيين، كما تذكر = رغم أصالتها – بشيء اعتدنا أن نجده في أفلام فيلليني. العجوز الثرية التي تموت، الصراع على لوحة، جنود الاحتلال وهم يفتشون وثائق السفر ويعتقلون من هم مثار شك، خطر الموت على الثلج.. إلخ. إنه فيلم بشبه عقد لآلئ فرطت حباته وتناثرت، ثم أعيد تجميعها. صحيح أنها جمعت عن دراية وخبرة، لكننا نستطيع تمييز فرادة كل حبة فيها. يبدأ الفيلم براوية عجوز في الفندق يستعيد ذكرياته، ثم تتجلى لوحات الفيلم، ولا أقول مشاهده. في كل لوحة ثمة غرابة وطرافة وجمال، بل هناك طابع مسرحي يصحبه أداء يجعل اللاواقع واقعاً قابلاً للتصديق، تماماً مثل مسرح العبث. القصة مقتبسة عن الأديب الشهير ستيفان زفايغ، وقد أعد السيناريو لها المخرج ويس أندرسون بالتعاون مع هوغو غوينيس. في الواقع، يعيد فيلم "فندق بودابست الكبير" إحياءاً لمفهوم "سينما المخرج"، وهو مفهوم لا يتحقق كثيراً في السينما الهوليوودية، بل يحتاج إلى مخرجين من طراز وودي ألن.
جمع المخرج ويس أندرسون باقة من كبار النجوم ندر أن يجتمعوا في فيلم واحد، فبالإضافة إلى ف. موري إبراهام ورالف فاينس، هناك إدوارد نورتون، جود لو، ويلم دافو، بيل موراي، تيلدا سويندون، هارفي كيتل، أدريان برودي، أوين ويلسون، ماثيو أمانريك، مع الممثل الشاب الصاعد توني ريفولوري. إنه طاثم ممتاز بحق، لكن النقاد والمحكمين كانوا أيضاً على حق في خيارهم منح الجوائز للنواحي التقنية، إذ تصدرها تصوير ممتاز من قبل روبرت د. يومان، وموسيقا رائعة من قبل ألكسندر ديسبلات، ومونتاج محكم قام به بارني فيلينغ، وأزياء صممتها ميلينا كانونيرو. يصعب التميز في فيلم احتشد فيه هذا العدد من النجوم، وجميعهم متقن لدوره، متقمص لشخصيته شكلاً ومضموناً، حتى بالكاد أن يميزهم المشاهد. في الواقع، هذا فيلم مخرج، وفي فيلم المخرج كثيراً ما نجد الممثلين يذوبون، ويتحولون إلى دمى يحركها بمهارة، كما دعا ذات يوم المسرحي البريطاني إدوارد غوردون كريغ.
قد يصدم بعض المشاهدين لدى مشاهدة فيلم "فندق بودابست الكبير"، إذ يتوقعون كوميديا أكثر إضحاكاً، أو قصة أشد ترابطاً، لكنه فيلم مثل كأس مترعة بالشراب يحتاج المرء إلى أكثر من تذوق كي يستسيغ الطعم. بالفعل، يكتشف المشاهد في ثنايا "فندق بودابست الكبير" لدى مشاهدات تالية تفاصيل غفل عنها، كالدرر المتناثرة وقد جمعها المخرج ويس أندرسون، وأضفى عليها لمساته السحرية ليقدم فيلماً أوربي الطراز، فني التوجه، كوميدياً وجاداً في آنٍ معاً.