اركض طول الليل


اركض طول الليل

د. رياض عصمت
يبدو أن النجم البريطاني ليام نيسون صار مختصاً بطراز أو أكثر من سينما الإثارة والتشويق بعد أن ارتبط اسمه بسلسلة "مخطوفة" بعد أن أنجز جزأه الثالث. يأتي فيلمه "اركض طول الليل" (2015) ثالث تعاون مشترك بينه وبين المخرج ذي الأصل الإسباني جوم كوليت-سيرا بعد فيلميه "بلا توقف" و"مجهول"، لكن هذا الفيلم بالذات أكثر الأفلام الثلاثة قتامة ومأساوية، ربما لأن قرينه وغريمه في الفيلم هو الممثل القدير إيد هاريس.
    يجسد ليام نيسون في بداية الفيلم شخصية قاتل محترف هو جيم كونلون، اعتزل منذ زمن بعد أن أجهز على 17 ضحية، وقبل أن يعيش على هامش المجتمع بعد وفاة زوجته. تارةً، يلهو به ابن زعيم العصابة الآيرلندية بعد أن كان القبضاي الأبرز فيها ذات يوم. وتارةً أخرى، يلح عليه مفتش شرطة أن يسلمه قائمة أسماء المجرمين ومهربي المخدرات. هكذا، نتعرف عليه سكيراً وفقيراً، يقبل أن يرتدي ثياب بابا نويل ليسلي أطفال أفراد العصابة التي كان قطباً فيها، مقابل بضع مئات من الدولارات. يشفق عليه صديقه القديم زعيم العصابة (إيد هاريس)، لكنه قانع بوضعه السلبي، ولا يطمح إلا للتعرف على حفيداته وكنته والمصالحة مع ابنه الوحيد (مايك) الذي يقاطعه ويتبرأ منه، قانعاً بعمله كمدرب ملاكمة وسائق ليموزين. فجأة، يرتكب ابن زعيم العصابة جريمة قتل تاجري مخدرات ألبانيين على مرأى من (مايك كونلون) سائق الليموزين التي أتيا بها. بالتالي، يحاول المجرم الفاسد التسلل إلى بيت الشاهد على جريمته ليتخلص منه في الوقت الذي يزوره به أبوه ليحذره. في اللحظة الحاسمة، يضطر جيم (ليام نيسون) لإطلاق النار على ابن رئيس العصابة ويقتله لينقذ ابنه من الموت. هنا، تبدأ أحداث تلك الليلة المثيرة. رئيس العصابة يطلق زبانيته من المجرمين، يتصدرهم قاتل محترف خطير، كما يطلق عناصر الشرطة المأجورين، وهدفه الانتقام لمقتل ولده. بالمقابل، يصحو جيم من سلبيته وإدمانه، ويصمم على إنقاذ حياة ابنه الوحيد وأسرته مهما كلفه ذلك من ثمن. يأخذنا المخرج كوليت-سيرا وطاقمه التقني البارع، الذي يتصدره مدير التصوير مارتن روهي، المونتير ديك وسترفيلت، والمؤلف الموسيقي جانكي إكس إل، في رحلة مطاردة مشوقة، فتنتقل الكاميرا بنا عبر أرجاء نيو يورك كالسحر في إيقاع سريع. يعزا الفضل أيضاً إلى السيناريو المحكم الذي وضعه براد إنغلسبي. ينمي الكاتب حبكة يضطر الأب والابن عبرها إلى التصالح والتعاضد أمام الخطر المحدق بهما من شرطة فاسدين وقتلة محترفين، والهدف هو أن يوصل جيم ابنه وأسرة ابنه إلى بر الأمان ولو ضحى بحياته في سبيل ذلك. بالتدريج، نرى الأب يتخلص من إدمانه على الشراب، ويستعيد قدراته المتميزة كقاتل محترف، ويتصدى لكل من يحاول اغتيال ابنه أو اصطياده، إلى أن يقتحم مقر زعيم العصابة ليجهز على أفراد العصابة ثم يخوض مع رئيسه القديم معركة تنتهي بأن يقتله ثم يحتضنه مودعاً بحنان. مع نضوج الأحداث، يكشف الابن أنه ليس عاقاً، وأن عاطفة البنوة ما تلبث أن تتفتح تدريجياً في قلبه تجاه والده، فيصبح أكثر تفهما وتقبلاً له وتقديراً لتضحيته، بحيث لا يمانع أن يعرف عليه زوجته وبناته تحت سقف ملاذ آمن اختاره الأب ليحميهم، بل نشعر أن الصبي القادم الذي تحمله زوجته في رحمها سيسمى باسم الوالد.  لوهلةٍ، يبدو للجميع أن الابن واسرته وصلوا إلى بر الأمان، وأن الأزمة التي استغرقت ليلة كاملة وصلت إلى نهايتها مع ذهاب صبي أسود إلى الشرطي الشريف ليريه ما صوره بموبايله عن جريمة ابن زعيم العصابة التي أدت لمطاردة الملاكم سائق الليموزين. لكن لا نجاة ولا مأمن طالما أن القاتل المحترف موجود لا يستسلم ولا يتوقف. يصاب جيم بجرح بليغ، ويلاحق القاتل الابن ليصفيه حسبما نص عقده مع زعيم العصابة. في اللحظة الأخيرة، يتحامل جيم على نفسه ويتمكن من إطلاق النار من بندقية الصيد على القاتل لينقذ ابنه للمرة الأخيرة قبل أن يفارق الحياة متأثراً بجراحه. إنها النهاية المأساوية المحتومة لرجل أنفق نصف حياته العملية يسفك الدماء، وقضى نصفها الثاني يبحث عن الغفران. إن هم بطل الفيلم الوحيد خلال الفيلم هو ألا يطلق ابنه طلقة واحدة من مسدسه، خشية منه أن يتحول إلى قاتل مثله. إنه لا يتوانى عن حمل المسؤولية وحده، وفعل المستحيل لإنقاذ ابنه وضمان مستقبله وسعادته. 

هذا فيلم تراجيدي بامتياز، فيه صراع بين قطبين كانا صديقين أقرب للشقيقين ذت يوم. لم يختر جيم (ليام نيسون) أن يقتل ابن صديقه ذاك، لكنه لم يقبل أن يتخلى عن ابنه هو بالرغم من إنكاره له ونفوره من سلوك أبيه. يطبق الفيلم، إذن، نظرية أرسطو حول "انقلاب الأضداد"، حيث تتغير الشخصيات لتكشف عن جوانب خفيه لديها، ولتغير سلوكها ومصائرها. يتألق إيد هاريس كعادته في شخصية غير مألوفة. كذلك، برع جويل كينامان قي أداء دور الابن الهارب من القتل، وإن كان الأبرع هو بويد هولبروك في دور الفتى الأرعن ابن زعيم العصابة. كما أدى فنسنت دونوفريو دور مفتش الشرطة النزيه بكثير من الواقعية والمصداقية. 

فيلم "اركض طول الليل" فيلم إثارة حقاً، لكنها إثارة مصحوبة بعمق درامي، وشخصيات متعددة الأبعاد، مما رفع سوية الفيلم إلى مصاف أفلام نادرة من هذا الطراز المأساوي الأسود، بحيث قدم خطاً موازياً للعنف والسوداوية في فيلم ليام نيسون السابق "مشية بين القبور"، وإن كان جيم كولون قد جميع هنا بين الصفات الاستثنائية لعميل الاستخبارات السابق في سلسلة "مخطوفة"، وبين مهارات قاتل محترف يضطر لأن يقف مدافعاً عن ابنه الوحيد في مواجهة زعيم وصديق وأخ يريد أن يثأر منه لولده القتيل. إخراج وتصوير هائلين في البراعة التقنية، وفيلم يشبه التراجيديا الأغريقية، إذ تجري معظم أحداثه في ليلة واحدة ويوم.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية