المتمردة

الإصدار: العدد مائة و إحدى عشر

المتمردة

د. رياض عصمت

    لا شك أنها سلسلة أفلام جديدة لا تقل تشويقاً وإثارة عن سلسلة "ألعاب الجوع" ذائعة الصيت، بل صار المشاهد في فيلم "المتمردة" (2015) يرى التوازي في خط فيلم "المتحولة" وقد اقترب خطاه ليصبح التشابه قوياً، فروايات الكاتبة فيرونيكا روث أخذت هنا في الفيلم الثاني من السلسلة بعداً سياسياً/فلسفياً يدين الدولة الشمولية التي تقسم المجتمع إلى فئات بنظرة استعلائية متكبرة وتحكمها بالحديد والنار. إنها شيكاغو في المستقبل البعيد، عالم وليد الخيال العلمي، حيث ينقسم المجتمع إلى خمس فئات، يمنح كل شاب وفتاة في عمر 16 سنة الفرصة لكي يختار موقعه بينها بحيث لا يمكن تغييره أو التخلي عنه طول العمر، وهي فئات تمثل قيماً متباينة، أعلاها شأناً المستنيرون، وأصعبها المقاتلون. أما من تثبت الفحوصات والتحاليل المخبرية انتماءهم إلى "المتحولين" بين فئة وأخرى، فيحكم عليهم بالموت فوراً لأنهم يشكلون خطراً جسيماً على المجتمع.

في فيلم "المتحولة" (2014)، تختار شابة تدعى (تريس) نقيضاً لرغبة والدتها ووالدها أن تكون في فئة الأقوياء، الذين أشبه ما يكونون بالشرطة، وذلك على نقيض شقيقها الذي يختار الأمان. تصمد (تريس) للتدريب الشاق العنيف، بل تلفت نظر مدربها (فور) بتفوقها التدريجي على أقرانها وقريناتها، مخفية سرها الرهيب في كونها مخلوقة متحولة تجمع في دمها  سمات أكثر من فئة.

إن رئيسة تلك الدولة الافتراضية (جانين) تطلب رأسها، لكن أمها تضحي بحياتها لإنقاذها، ويتمرد مدربها الذي أحبها لينجيها من الإعدام.

    يبدأ فيلم "المتمردة" (2015) من حيث انتهى الفيلم الأول، حيث نرى كلاً من (تريس) و(فور) مع حفنة من الفارين يبحثون في الخلاء عن ملاذ آمن لدى أناس يعيشون على هامش المجتمع، في حين تأمر (جانين) بمطاردتهم والإمساك بهم، لأنها حصلت على صندوق أثري سحري لا يمكن فتحه والاستحواذ على سره إلا من قبل أحد المتحولين. يداهم جنود (جانين) القساة ملجأ المتمردين، ويكادون بفضل الخيانة أن يمسكوا بالهاربين، لكن مطاردة عنيفة تنتهي بقفزهم إلى قطار لا يلبثون أن يؤسروا فيه من قبل أعوان إحدى الفئات، التي يقرر قائدها تسليمهم إلى المحكمة العليا. يناشده (فور) أن تجري محاكمتهم حيث هم تحرياً للعدل، وكيلا يلاقوا حتفهم عبر محاكمة ظالمة.

يوافق القائد، ويحاكما أمام الجميع ليكتشفوا براءتهما من التهم الموجهة إليهما. ما نلبث أن نتعرف إلى عالم من المتمردين تقوده امرأة قوية الشكيمة، لكن شقيق (تريس) يختار التخلي عن الهرب والعودة إلى حضن الدولة، التي تصر زعيمتها على ملاحقة أولئك المتمردين ومحاولة اصطياد (تريس) حية لكي تكشف لها عن السر الكامن في الصندوق القديم. تنقسم آراء المتمردين، فمنهم من يرى تسليم (تريس) لرئيسة الدولة تفادياً للأذى والاضطهاد، بينما يصر (فور) وأعوانه على الدفاع عنها حتى الرمق الأخير. فجأة، يبحثون عن (تريس) فلا يجدونها، إذ اختارت أن تغادر لتجنبهم التضحيات، وذهبت طوعاً إلى عقر دار (جانين) لتسلم نفسها. هناك، تخضع في مختبر إلى تجارب متتالية تأخذها إلى عالم الوهم، حيث تترى الكوابيس بصورة مبهرة الإخراج، فمن مشهد محاولتها إنقاذ أمها من بيت ملتهب بالنار، إلى صورة حبيبها (فور) وهو يتفتت إلى شظايا، إلى أن تخوض (تريس) أصعب معاركها في مواجهة  ذاتها عبر قتال عنيف كأنما هو صراع مجسد داخل روحها. 

يقتحم (فور) وصحبه المكان لإنقاذها، ويتوب الخائن عن خيانته بعد أن يدرك أن (جانين) التي تملقها لا تأبه بمصرع رجالها، ويكاد المتمردون ينجون سالمين لولا أن (تريس) تصمم على العودة إلى المختبر وكشف السر الذي يخفيه الصندوق السحري. تنجح (تريس) في فتح الصندوق، وإذا بالسر عبارة عن حكمة مقدسة مكتومة تفيد بأن المتحولين ليسوا فئة ناشزة تستحق الإعدام، بل هم أشخاص نادرو المثال يملكون حق الحياة الكريمة لأنهم متميزون وموهوبون خارج إطار التصنيف والترهيب المستبدين اللذين مارسهما نظام (جانين) العنصري بقسمه المجتمع إلى خمسة فئات لا يجيز الخروج عنها، ويحكم من يتفرد بالإعدام. تنهار قوى الاستبداد، وتقتحم زعيمة المتمردين مقر (جانين) وتطلق عليها رصاصة في الرأس، بينما تُكتب النجاة لكل من (تريس) وحبيبها (فور) ليبدأآ الحياة من جديد على ضوء المعرفة التي كشفاها.

    فيلم "المتمردة" (2015) فيلم مبهر، ذو إيقاع سريع ومشاهد أخاذة، بحيث لا يشعر المشاهد فيه بمرور الزمن. إنه ليس مجرد فيلم عادي من أفلام الحركة، بل يتضمن أبعاداً فلسفية وإنسانية وسياسية أعمق. بالرغم من نجاح مخرج الجزء الأول "المتحولة" نيل برغر، إلا أن انشغاله بعمل آخر دفع بالمنتجين إلى الاستعانة بالمخرج الألماني روبرت شوينتكه، الذي لم يكن أقل منه إبداعاً. كما اتسع نطاق التعاون في مجال كتابة السيناريو في "المتمردة" ليشمل برايان بافيلد وآكيرا غولدسمان ومارك بومباك عن رواية فيرونيكا روث.
برز في فيلم "المتمردة" أداء شيلين وودلي الرائع من خلال لقطات قريبة أظهرتها في قمة الانفعال الجامح في الصحو والمنام. أثبتت شيلين وودلي كفاءتها كإحدى أبرز الممثلات الصاعدات إلى النجومية. هنا، شاركها للمرة الثالثة سينمائياً - عقب "المتحولة" و"الخلل في نجمينا" – الممثل الشاب آنسل إيلغورت في دور شقيقها، وهو ممثل هادئ ورقيق في مقاربته لأدواره عامة. أما حضور ثيو جيمس في دور (فور)، مدربها السابق وحبيبها اللاحق، فبدا لافتاً وهو يكافح حتى الرمق الأخير للدفاع عنها وإنقاذها، رغم أن أداءه الحركي فاق تعبيره العاطفي. لعبت الممثلة القديرة كيت وينسلت دور الرئيسة (جانين) ببرود قاتل، فجمعت الجمال مع القسوة، وأعتقد جازماً أن كيت وينسلت لو ولدت في عصر ألفريد هتشكوك لاختارها أن تكون في عداد بطلات أفلامه. عل نقيضها، جاء أداء الممثلة الكبيرة آشلي جود لدور الأم، فواراً بالعاطفة الجياشة والإحساس المرهف.

كذلك، أضفت الممثلة السوداء أوكتافيا سبنسر حضوراً متألقاً على دورها المساند القصير، وهي الممثلة التي حازت الأوسكار عن دورها في فيلم "الخادمة"، فضلاً عن الممثل المخضرم راي ستيفنسون (في دور ماركوس). كما قدم فيلما "المتحولة" و"المتمردة" مجموعة من الممثلين الشباب الواعدين: جاي كورتني (الشرير)، زوي كرافيتس (الصديقة السمراء)، مايلز تيلر (الخائن/التائب). كما لا بد من الإشادة بالدور التقني البارز لمدير التصوير الألماني فلوريان بولهاوس، ومعه باقة من التقنيين في الديكور والأزياء والمونتاج والمؤثرات والموسيقا. عادةً، لا تحقق الأفلام التالية في السلاسل السينمائية نجاح الجزء الأول نفسه، بل تبدأ في التراجع. لكن فيلم "المتمردة" كسر تلك القاعدة، وحقق خطوة إلى الأمام عن فيلم "المتحولة"، ليستمر التنافس الشريف بين شيلين وودلي وبطلة سلسلة "ألعاب الجوع" حائزة الأوسكار جنيفر لورنس، والسلسلتان مستمرتان مع مزيد من الصراع بين الاستبداد والتمرد يحفل بالإسقاطات المعاصرة عبر عالمين من الخيال العلمي.
 







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية