الرجل-الطائر

الإصدار: العدد مائة و إثنا عشر

الرجل-الطائر

د. رياض عصمت

يلعب مايكل كيتون في فيلم الأوسكار "الرجل-الطائر" (2014) دور ممثل سينمائي معتزل يدعى (ريغان)، كان بطل أفلام "الرجل-الطائر" الجماهيرية قبل أن يتقدم به العمر، ويسعى جاهداً للتخلص من ماضيه الهوليوودي ليطرق باب المسرح الواقعي الجاد بمسرحية واقعية تدور عن إحباطات الحب، تنتهي بانتحار بطلها الكهل بطلقة مسدس بعد اكتشاف خيانة زوجته التي يحب. يتصدى (ريغان) لإخراج وتمثيل العرض، ليلج به دنيا المسرح الفني من أوسع باب، بعد أن اقتبسها عن كاتب قام بتشجيعه في مطلع حياته الفنية تعبيراً عن الامتنان والتخليد لذكراه. كما وضع (ريغان) كل ما جناه من مال مع شريك يدعى (جيك) مراهناً على تلك المسرحية التي توشك أن تفتتح على أحد مسارح برودواي، والتي يراها تعويضاً عن كهولته، ورأباً لتصدع العلاقة مع ابنته - أدت دورها إيما ستون، ورشحت لجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة - جاهداً لتخليصها من الإدمان على المخدرات. لسوء الحظ، يصاب الممثل المشارك في المسرحية قبيل البدء بالعروض التجريبية تمهيداً للافتتاح بحادث خطير، فيلجأ المنتجان إلى ممثل شاب لامع، وإن كان صعب المراس، ليملأ فراغ الدور بسرعة خارقة. هكذا، يدخل (مايك) - الذي أداه إدوارد نورتون ببراعة هائلة - عالم العرض، ويقلب العلاقات الفنية والإنسانية فيه رأساً على عقب، مشتبكاً بسبب مهارته المهنية في علاقة تنافس مع (ريغان)، المهووس بالمسرحية كمشروعه الشخصي الذي يطمح إليه للتعويض عن انسحابه من عالم السينما التجارية وخوضه غمار فن المسرح السامي. تتعقد العلاقات في كواليس المسرح بعد أن يسحب الممثل الجديد البساط من تحت أقدام نجم السينما المعتزل، فيثور غضب (ريغان) الذي ما زال الجمهور يذكره على أنه الرجل-الطائر، والذي نراه يتمتع طاقة باراسيكولوجي خارقة تمكنه من تحريك الأشياء عن بعد خلال سورات غضبه، بينما يظهر له الرجل-الطائر متجسداً كأناه العليا ليحاوره ويبث في نفسه الشكوك ويسدي إليه النصائح. تتصاعد حدة المتاعب والمخاطر أمام (ريغان) قبيل افتتاح العرض الذي راهن عليه بكل ماضيه وحاضره، ومنها تفوق الممثل المشاغب، وإدمان ابنته وغرابة أطوارها، وجراح غير ملتئمة لعلاقات غرامية متآكلة، لكنه بالأخص يخوض تحدياً مع أقسى ناقدة مسرح في نيويورك حين يعلم أنها تستعد لالتهامه حياً وتحطيم مسرحيته تماماً. ذات مرة، يعلو (ريغان) سطح بناء أمام أعين الناس والجيران، ويلقي نفسه في الفضاء، فيحلق في سماء نيويورك. يستعيد (ريغان) ثقته بنفسه، وخلال ليلة الافتتاح، يرتقي أداؤه إلى مستوى غير مسبوق، يتمكن معه أن يطغى على منافسه الممثل المسرحي المتمكن، ويبلغ مستوى من الاقناع الواقعي يشهر معه مسدساً حقيقياً في ختام المسرحية ويطلق النار على رأسه بالفعل ليسقط مضرجاً بدمائه وسط وقوف الجمهور مصفقاً بحماسة منقطعة النظير، في الوقت الذي تتسلل فيه الناقدة القاسية خارجة من المسرح. لا يقتل (ريغان) بالرصاصة، بل يتشوه أنفه. تجرى له عملية تجميل نكتشف معه حين ينزع الضماد أن أنفه تحول إلى ما يشبه منقار الرجل-الطائر الذي كان يتقمصه سينمائياً في شبابه. تنشر الناقدة القاسية مقالاً ملؤه المديح والانبهار بالأداء التمثيلي الرفيع والمذهل في العرض. يصل (ريغان) إلى منتهى النشوة، وبأنه حقق حلمه وأعاد الاعتبار لنفسه بعيداً عن شخصية الرجل-الطائر، التي تخلص منها إلى الأبد. يفتح (ريغان) نافذة غرفته في المستشفى، ويغيب عن الأنظار. تدخل ابنته وتبحث عن أبيها مرتاعة. تفتح النافذة وتنظر إلى الشارع في الأسفل ظناً منها أنه أقدم على الانتحار، ثم ترفع عينيها إلى سماء نيويورك فترتسم على ملامحها الدهشة. من الواضح - دون أن يرينا المخرج ما رأت – أن والدها، بطل أفلام الرجل-الطائر، عاد ليحلق عالياً في السماء.. سماء الفن الرفيع بعد أن وجد ذاته.
إن الغموض هو أحد ميزات الأعمال الفنية الطموحة والرائدة. قدم المخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو فيلماً خاصاً من طراز فريد، بحيث يذكر ببعض روائع السينما الأوربية في عصرها الذهبي. في الحقيقة، لم يتوان المخرج عن تضمين فيلمه عديداً من الإيحاءات والتلميحات والدلالات. لكن التجديد كمن في أسلوب عمل المخرج، إذ صور إيناريتو الفيلم خلال شهرين في مسرح "سان جيمس" في برودواي، على مقربة من ساحة "تايم سكوير" في نيويورك. قام إيناريتو ببروفات مكثفة وطويلة مع الممثلين بصورة غير مألوفة في عالم السينما، وصور الفيلم بما يوحي أنه صوره في لقطة واحدة، لأنه قام بتصويره – وهذا تحدٍ نادر – بشكل متسلسل الأحداث. أحياناً، أجبر الممثلين أن يؤدوا 15 صفحة من السيناريو دفعة واحدة، بصورة تشبه المسرح تماماً. كثيراً ما استخدم مدير التصوير إيمانويل لوبيزكي كاميرا محمولة تحركت بشكل إعجازي في أروقة المسرح الضيقة وغرفه الممثل محدودة الاتساع. قليلاً ما خرجت الكاميرا إلى الشارع، إلا في بعض المشاهد المحدودة. لم يستخدم المخرج – كما قيل – أكثر من 16 قطع مونتاجي واضح. لكن أروع ما هناك على الإطلاق في فيلم "الرجل-الطائر" هو التمثيل الواقعي المذهل الذي قدمه جميع الممثلين الأساسيين في فيلم حافل بالخيال والواقعية السحرية. إنه أداء تمثيلي خارق في إقناعه وصدقه، قاده الثلاثي مايكل كيتون، إدوارد نورتون، إيما ستون، زاك غاليفياناكيس وناعومي واتس. لجأ المخرج إيناريتو إلى استخدام موسيقا تصويرية بالغة الغرابة، معظمها عبارة عن قرع على الطبول، وضعها أنتونيو سانشيز، وزادت من التوتر مع الإيقاع السريع المماثل لانفعالات والتصورات الجامحة للممثل الهوليودي الكهل الذي يريد التوصل إلى خلاص روحه في المسرح.
وجدت شخصياً مأخذين فقط على فيلم "الرجل-الطائر". الأول هو إقحام مشهد مفاجئ وغير مبرر لعلاقة مثلية بين امرأتين. أما الانتقاد الثاني والأهم فهو كشف قدرة (ريغان) على التحليق قبل الأوان المناسب، إذ كان الأروع في نظري أن يؤجل المخرج ذلك إلى الختام لنرى من وجهة نظر الابنة تحليق والدها في سماء نيويورك مع قفلة الفيلم. بقي أن نذكر أن فيلم "الرجل-الطائر" القاتم عموماً حفل بعديد من لمحات الكوميديا، لعل ذروتها المشهد الذي يعلق (ريغان) خلاله خلال عرض المسرحية خارج باب المسرح الخلفي، فيضطر إلى خلع الروب-دو-شامبر والهرولة بسرواله الداخلي وسط الجماهير في ساحة "تايم سكوير" ليدخل المسرح بين صفوف الجمهور ويكمل أداء دوره بروعة مذهلة. إنه مشهد ينتمي إلى طراز العبث، بحيث يجمع مزيجاً من الكوميديا والتراجيديا، ولعل هذا يمثل طراز الفيلم الغريب بأكمله. في الواقع، تأثر المخرج إيناريتو بمدرسة "الواقعية السحرية"، ذلك التيار الأدبي/الفني الذي اشتهر من أمريكا اللاتينية عبر روايات غابرييل غارسيا ماركيز وإيزابيل ألليندي. ها هي الواقعية السحرية تطل بقوة في السينما عبر فيلم إشكالي سيخلده الزمن بلا شك، حتى ولو خسر إعجاب الجمهور العريض. هذا فيلم إشكالي بامتياز، ينتمي إلى السينما المستقلة أو البديلة، كما أن الجدل احتدم حوله قبل حفل "الأوسكار"، ولكن بالأخص بعده، عندما حاز أربع جوائز مهمة، هي: جائزة أفضل فيلم، جائزة أفضل إخراج، جائزة أفضل تصوير، وجائزة أفضل







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية