د.رياض عصمت
هذا فيلم خاص جداً من أفلام الخيال العلمي، ينتمي بفنيته إلى سينما تقرب مما يسمى "السينما المستقلة" في تصديه بطريقة غير مألوفة لموضوع يبدو مألوفاً للوهلة الأولى قبل أن نكتشف أبعاده الكامنة وتحولاته المفاجئة. فيلم "الإنسانة الآلية" (2015) هو العمل الإخراجي الأول لكاتب السيناريو المحترف أليكس غارلاند، الذي عرفه عشاق السينما من خلال أفلام "بعد 28 يوماً" و"الشمس المشرقة" و"الشاطئ" وسواها. كتب غارلاند سيناريو "الإنسانة الآلية" وأخرجه، معتمداً على ثلاث شخصيات ناطقة وأخرى صامتة طيلة فيلم طويل لم يفتقر أبداً إلى عنصر التشويق، رغم أنه فيلم نفذ بميزانية محدودة.
يتم اختيار عالم برمجيات كومبيوترية شاب يدعى (كاليب) عن بعد من قبل مخترع يدعى (ناثان) ليسافر إلى مختبره النائي الواقع وسط الغابات بطائرة هيلوكوبتر، وليختبر نجاح اختراعه لإنسانة آلية حاول جعلها نموذجاً متقدماً للذكاء الاصطناعي، ويمتحنها بأسئلته لمعرفة فيما إذا كانت العواطف يمكن أن تتولد لديها. بالفعل، يصل (كاليب) إلى ذلك المختبر المنعزل، ويتعرف إلى صاحبه غريب الأطوار والمدمن على الكحول، ثم يبدأ اختباراته للإنسانة الآلية ذات الوجه الساحر الذي ينضح بالبراءة (إيفا). يوماً بعد يوم، يتطور الحوار بينهما بحيث تبدأ الإنسانة الآلية تطرح بدورها الأسئلة لتقصي ماضي (كاليب) وتاريخه الشخصي، ثم تحذره خلسةً خلال انقطاع تيار الطاقة من الوثوق بصاحب المختبر وخالقها (ناثان). يبدأ الشك ينمو في عقل (كاليب)، فضلاً عن عاطفة غريبة في قلبه تجاه تلك الإنسانة الآلية (إيفا). يتكرر انقطاع الطاقة لفترات قصيرة بما يشجع (كاليب) على تبادل الأسرار في غفلة عن رقابة (ناثان) عبر كاميرات المراقبة. يكتشف (كاليب) ذات مرة خلال إغفاء صاحب المختبر وقد تعتعه السكر أنه صنع عدة نماذج لفتيات آليات، بينهن تلك النادلة الآسيوية التي تخدمهما، هن أشبه بالمخلوقات الحية الحقيقية القادرة على كل شيء بما في ذلك تلبية الرغبات الجنسية، وأن أي نموذج سابق لا يعجبه يقوم بتنسيقه ودفنه في إحدى الخزائن، أي عملياً تنسيقه وتدميره. هنا، تناشده (إيفا) أن ينقذها من ذلك المصير الرهيب، ويخشى هو عليها تحت وطأة عاطفته المتأججة أن تتعرض للأذى، فيخطط أن يقوم بتهريبها بعد أن يسكر (ناثان) ليغيب عن وعيه. في لحظة التنفيذ الحاسمة، يرفض (ناثان) أن يشرب الفودكا متنبهاً للمؤامرة، وما يلبث أن يكشف لعالم البرمجيات الشاب أنه إنما اختاره وأتى به ليس ليختبر إمكانية تولد عاطفة الإنسانة الآلية تجاه البشر، بل تولد العاطفة لدى مخلوق بشري تجاه إنسانة آلية خارقة الذكاء. يصارحه (كاليب) أنه تلاعب سلفاً بالمنظومة الأمنية وأن البوابات ستفتح أوتوماتيكياً بمجرد انقطاع تيار الطاقة، فيضربه (ناثان) ويفقده وعيه، في الوقت الذي تنقطع فيه الطاقة وتتمكن (إيفا) من الخروج من معتقلها الزجاجي، وتهمس بشيء إلى النادلة الآسيوية، وهي إنسانة آلية أخرى. يواجه (ناثان) مخلوقته (إيفا) مهدداً بقضيب حديدي آمراً إياها أن تنكفئ وتعود إلى غرفتها الزجاجية المحصنة، تشتبك معه فيقطع لها ذراعها ويهم بخنقها، لكن الإنسانة الآلية الآسيوية تطعن (ناثان) بسكين في ظهره قبل يحطم (ناثان) رأسها، وما تلبث (إيفا) أن تكمل عليه بطعنة أخرى قاتلة في صدره. ينتهي الفيلم نهاية غريبة، إذ تفلح (إيفا) في تنفيذ خطة هربها، تاركة (كاليب) سجيناً يصرخ دون جدوى وراء الأبواب الموصدة لذلك المختبر النائي والمعزول عن أعين البشر، بينما يرقد صاحبه المخترع في رواق قتيلاً نازف الجراح، وتخرج (إيفا) لملاقاة طائرة الهيلوكوبتر التي جاءت في الموعد المحدد لاصطحاب خبير البرمجيات في رحلة العودة. ينتهي الفيلم بلقطة جمالية غريبة تصور الإنسانة الآلية (إيفا) وهي ترقب جموع البشر تتحرك في شارع مزدحم لمدينة كبيرة آهلة، ربما مبشرة بجزء ثانٍ قادم أكثر هولاً.
جدير بالذكر، إن عنوان الفيلم بالإنكليزية Ex Machina يشير إلى حيلة تقنية مسرحية قديمة يعود أصلها إلى المسرح الإغريقي، حيث كانت تنزل من أعلى شخصية تلعب دور إحدى الآلهة. في الواقع، يتردد خلال حوار عالم البرمجيات والمخترع في الفيلم اسم (بروميثيوس) أكثر من مرة، وبروميثيوس هو من سرق النار للإنسان من السماء في الأسطورة الأغريقية. لكن فكرة الفيلم في جوهرها تبدو أكثر شبهاً بقصيدة معارضة لرواية "فرانكنشتاين"، حيث يشكِّل عالم مخترع مخلوقاً ما يلبث أن يتمرد عليه ويتحرر منه. لكن (إيفا) – فرانكنشتاين فيلم "الإنسانة الآلية" – مخلوق أبعد ما يكون عن قبح فرانكنشتاين، وأقرب ما يكون إلى الفتنة الطاغية للأنثى الكاملة المتكاملة. إن العذوبة والبراءة والرقة والإقناع الذي جسدته الممثلة السويدية الشابة آليسيا فيكاندر تنسي ليس عالم البرمجيات فحسب، بل حتى المشاهد، أنه يتعامل مع آلة. بالمقابل، نجح كل من الممثلين دومهنول غليسون في دور (كاليب)، وأوسكار إسحق في دور (ناثان)، في تقديم شخصيتين متباينتين إلى درجة التنافر، وبجانبهما الممثلة الشابة سونويا ميزونو في دورها الصامت. اللافت للنظر أن المخرج أليكس غارلاند ابتعد عن الأسماء المعروفة والملامح المألوفة، بل إنه جعل شكل أوسكار إسحق (ناثان) مختلفاً كل الاختلاف عن أدواره الأخرى، بينما حرص للإبقاء ما أمكن على ملامح الدهشة لدى عالم البرمجيات الشاب المتورط بمهمة يظن أنها اختباره لردة فعل إنسانة آلية، فإذا به اختبار لردة فعله إزاء إنسانة آلية. ينتمي الفيلم عموماً إلى سينما الإثارة، لكن مؤلفه ومخرجه سعى عامداً متعمداً لعدم الانسياق وراء الطابع التجاري للإثارة والتشويق بالرغم من تمتع حبكة الفيلم بكل المؤهلات حتى لبث مشاعر الرعب لدى المشاهدين، بل عالج شخصيات الفيلم وأحداثه بهدوء وإقناع أضفيا على الفيلم جدية وفنية ومصداقية جعلته يحظى بتقييم عالٍ تجاوز 8 درجات.