د. رياض عصمت
لا شك أن السينما الإيرانية احتلت عن جدارة مكانة متقدمة عالمياً، وصارت تحظى باحترامٍ وتقدير عاليين في المهرجانات الدولية، حتى الغربية منها، بحيث بلغ ذلك الذروة عبر فوز فيلم "انفصال" للمخرج أشغر فرهدي بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي في العام 2012. الحق يقال، إن ترشيحات إيران للأوسكار سبقت ذلك، ومن أهمها فيلم المخرج مجيد مجيدي "أطفال الجنة" عام 1999. لكن قائمة المخرجين الإيرانيين الكبار الذين نافسوا على جوائز عالمية، نالها بعضهم بجدارة، يتصدرها عباس كيروستاني ومحسن مخملباف. علينا ألا ننسى أيضاً ذكر الراحل سيف الله داد صاحب فيلم "المتبقي" مع ممثلين سوريين. كتب الناقد ذو الأصل الإيراني حميد نفيسي كثيراً بالإنكليزية مقدماً روائع السينما الإيرانية ومخرجيها الطليعيين، ليحرض عشاق السينما في الولايات المتحدة على مشاهدة أفلام مهمة مثل "لقطة قريبة" و"طعم الكرز" لعباس كيورستامي، و"لحظة براءة" و"قندهار" لمحسن مخملباف، و"هذا ليس فيلماً" للمخرج جعفر باناهي، و"السلاحف يمكن أن تطير" للمخرج بهمان غوبادي، وسواها كثير. هناك أيضاً مخرجات إيرانيات حققن إنجازات مهمة على صعيد السينما الاجتماعية، بينهن سميرة مخملباف وبوران دراخشانده.
اللافت للنظر أن معظم هؤلاء المخرجين تمتع بجرأة عجيبة في التصدي لمشاكل اجتماعية حساسة، سابحاً بأفلامه عكس التيار، متغلباً على أمواج الرقابة، وواصلاً بها إلى بر الأمان، وأعني بهذا الاعتراف النقدي العالمي فضلاً عن إقبال الجمهور العريض على حضورها داخل إيران نفسها. إن معظم هؤلاء المخرجين كانوا جريئين، وكثيراً ما حلقوا خارج السرب في سماء الحرية، فانتزعوا الاحترام في الداخل والخارج معاً. هكذا، جاء فيلم المخرجة الإيرانية بوران دراخشانده "هس! يا بنات لا تصرخن" (2013) صرخة فنية جديدة تلقي الضوء على مآسٍ تبقى عادةً في الظل، ولا تتطرق إليها السينما في العالم النامي لما تسببه من حساسية اجتماعية، والمأساة هنا هي قضية تعرض الأطفال للإعتداء الجنسي. تركز المخرجة بوران دراخشانده، التي أسهمت في كتابة السيناريو أيضاً مع ميترا بهرامي، على قصة محاكمة شابة قتلت شخصاً لا تعرفه في ليلة زفافها. تدريجياً، نكتشف السبب من خلال التحقيق ثم المحاكمة، فقد ضبطت ذلك البواب بالصدفة يعتدي على طفلة صغيرة فتذكرت كيف تعرضت وهي طفلة في الثامنة من عمرها لاعتداءات متكررة من سائق كان مكلفاً باصطحابها من المدرسة وإليها في غفلة عن عيني والديها، رغم كوابيس الفزع التي هيمنت عليها. إنها فكرة جريئة للغاية تطرح أسئلة أخلاقية عديدة، سواء تجاه أولئك المنحرفين، أم تجاه الأهل الذين يخفون أسرار ما تتعرض له بناتهن خشية من الفضيحة، أم تجاه مدى عدالة قانونٍ يحاسب الجاني والمنتقمة على حد سواء ويقضي بإعدامهما معاً. في الواقع، عالجت المخرجة موضوعها ببراعة وتمكن هائلين، واستطاعت تطوير الفكرة إلى قصة متينة، ثم إلى حبكة مشوقة، وضمنت السيناريو حواراً مقتصداً وذكياً دون أن تغفل لغة التعبير الأدائي عبر الصمت، فجعلت الصورة تحكي في معظم الفيلم عبر 113 دقيقة من الحرفة السينمائية العالية في مختلف المجالات التقنية، ولكن بالأخص في إدارة طاقم الممثلين والممثلات الرائع، وفي طليعتهم ممثلة الدور المحوري تاناز طبطابائي (في دور شيرين،) وميريلا زاريئي (في دور المحامية.) وأجزم أنه لو حملت الممثلتان الجنسية الأمريكية أو البريطانية لرشحتا إلى أوسكاري أفضل ممثلة وأفضل ممثلة مساعدة.
أروع ما في فيلم "هس! يا بنات لا تصرخن" هي بدايته ونهايته. تفتتح المخرجة فيلمها بلقطة للعريس مع شاب آخر والدهشة ترتسم على وجهيهما إذ تظهر العروس بثوب العرس الأبيض مضمخاً بالدم، ويكتشف العريس أنها ارتكبت جريمة قتل خلال ليلة زفافها. بتشويق بالغ، تنتقل بنا المخرجة تدريجياً بحثاً عن جواب للدافع الغامض الذي حدا بالعروس (شيرين) إلى قتل بواب عمارة لا تعرفه، ولم تقابله من قبل، بأداه حادة. يصل بنا الفيلم إلى الذروة في قاعة محكمة حقيقية صورت فيها المخرجة مشاهد فيلمها الاجتماعي الجريء. يمضي السيناريو قدماً في رحلة كفاح مضنية من قبل المحامية لاستخلاص مبررات تنقذ موكلتها الشابة من حبل المشنقة. كثيراً ما تأخذنا المخرجة عبر استعادات ذهنية عديدة إلى زمن الماضي لتصور تعرض بطلة الفيلم وهي طفلة إلى الاغتصاب المتكرر من قبل سائق مريض نفسياً، ظل يرهبها حتى في شبابها ويدمر فرصاً متتالية لعيشها حياة زوجية طبيعية. صحيح أن الشرطة تطال ذلك السائق وتعتقله، وأن المحقق يتمكن من إجباره على الاعتراف، وأن حكم العدالة يصدر عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، إلا أن المخرجة بوران روت لنا، نحن الجمهور الذي حضر عرض الفيلم في جامعة "نورث وسترن"، أن الرقابة اعترضت على فكرة تعرض ذلك المجرم الفاعل للاغتصاب في طفولته، بحيث اضطرت إلى حذفها. لكن ما لم تحذفه الرقابة، لحسن الحظ، هو تلك النهاية المأساوية التي رسمتها لبطلة فيلمها (شيرين)، إذ جعلت القانون لا يرحمها، فيصدر القاضي في حقها حكم الإعدام هي أيضاً، بحيث يتساوى الجاني بالمجني عليها. تحافظ المخرجة على التشويق حتى آخر مدى، فتجعل المحامية تجهد للعثور على شقيق القتيل ودفعه للاعتراف بسلوك شقيقه المنحرف الذي دفع (شيرين) لارتكاب القتل في لحظة انفعال انتقاماً مما تعرضت له في طفولتها، لكن الشقيق يأخذ جرعة عالية من المخدرات ينقل على أثرها إلى المستشفى في حالة إسعاف، ونظل نترقب ونحن على أعصابنا، إلى أن نحبط حين يتوفى الشقيق دون أن يشهد بما ينقذ (شيرين). هكذا، تساق بطلة الفيلم إلى الإعدام، وتتراءى لها باقة من طفلات بريئات تلوحن بأيديهن لها مبتسمات كأنهن يرحبن بها في العالم الآخر. إنها نهاية محزنة، لأن المتفرجين ظلوا يحلمون بشهادة والدي الطفلة التي قتلت شيرين المعتدي عليها وهما يتقدمان إلى المحكمة لينطقا بالحقيقة وينقذانها من الإعدام، لكن ذلك لا يحصل. لكنها النهاية التي يخرج منها جمهور المشاهدين محرضاً، والنهاية التي تتطابق مع الواقع المأساوي، حيث يسدل على مآسٍ كهذه ستار الصمت الأسود. فيلم "هس! يا بنات لا تصرخن" (2013) نقطة علام جديدة في تاريخ السينما الإيرانية من المخرجة نوران دراخشانده، التي أخرجت أيضاً فيلم "عشرون"، فضلاً عن عديد من الأفلام التسجيلية. كان يمكن لفيلمها "هس! يا بنات لا تصرخن" أن ينزلق بسهولة إلى الميلودراما، لكن المخرجة حالت دون ذلك لتقدم بمهارة فنية ورؤية درمية ووعي نفسي وجرأة اجتماعية فيلماً ذا مصداقية وتأثير عميقين، بحيث يضاف بجدارة إلى سجل روائع السينما الإيرانية، ويؤكد إسهام المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل في صنع أعمال فنية ذات مضمون اجتماعي/نفساني عميق. هذا فيلم يستحق أن يخوض المنافسة في المهرجانات العالمية، وفي الوقت نفسه يعرض في أكثر من ستين صالة في إيران نفسها بإقبال جماهيري واسع. إن فيلم "هس! يا بنات لا تصرخن" (2013) مثال ممتاز على التكامل بين الشكل والمضمون.