جيسون بورن

الإصدار: العدد مائة خمس و اربعون

جيسون بورن

د. رياض عصمت

    اعتقد كثيرون أن قصة جيسون بورن استنفذت أغراضها وطويت سينمائياً إلى الأبد، ومنهم نجم السلسلة السينمائية نفسها، مات دامون، الذي بدأها بفيلم "هوية بورن" (2002) عن رواية روبرت لودلوم، حين أعرب للمخرج بول غرينغراس، مخرج "تفوق بورن" (2004) و"إنذار بورن" (2007) أنه لن يمثل تلك الشخصية بعد ذلك. لكن فيلماً رابعاً ما لبث أن أنتج من بطولة نجم مختلف هو جيريمي رينر، لم يلق النجاح المأمول، وكان من إخراج مونتير عمل في بعض الأفلام السابقة هو توني غيلروي. لذلك، عمد المخرج بول غرينغراس إلى إقناع مات دامون بالعودة لتجسيد شخصية جيسون بورن في فيلم رابع، وربما أكثر، خاصة أن كاتب القصة والسيناريو هو المونتير المفضل لديه، الذي عمل معه في فيلمي "بورن" السابقين، كريستوفر روس.

    كما أن شون كونري كان أول وأفضل من جسد شخصية جيمس بوند، وارتبط اسم هاريسون فورد بشخصية إنديانا جونز، وتألق توم كروز مع "مهمة مستحيلة"، وبرز بروس ويليس في "الموت القاسي"، فإن مات دامون لمع في شخصية العميل جيسون بورن، الذي خلقته المخابرات المركزية كأداة للقتل، فتمرد عليها بدافع إنساني بحت، ثم فقد ذاكرته، وأصبح هدفاً للاغتيال كي تطوي المخابرات صفحات ذلك البرنامج الدموي المدان. صحيح أنه سبق أن جسد الممثل القدير ريتشارد تشامبرلن شخصية جيسون بورن في مسلسل تلفزيوني قصير ناجح، إلا أن السلسلة السينمائية اختلفت وتطورت كثيراً عن المسلسل، إذ كانت القصة الأصلية بسيطة بالمقارنة مع السلسلة اللاحقة والفيلم الجديد. يبدأ "جيسون بورن" (2016) بأن يرينا بطله يعتاش من مباريات الملاكمة غير التقليدية على الحدود بين اليونان وألبانيا، لكنه يخرج من قوقعته عندما تعثر عميلة شابة للمخابرات على معلومات عن هويته وأصله وتتصل به معتزمة إطلاعه عليها، ومفادها أن والده اغتيل في بيروت بانفجار سيارة، وأنها عرفت لماذا ومن يقف وراء الاغتيال. هنا، يعود جيسون بورن للفت أنظار قيادة المخابرات المركزية التي ترغب في إغلاق الملف نهائياً، فيكلف مدير رفيع المستوى (لعب دوره تومي لي جونز،) قاتلاً محترفاً خطيراً (لعب دوره فنسنت كاسيل،) بتصفية جيسون بورن. تبرز بطلة الفيلم، ضابطة المخابرات الشابة هيثر لي، حين تتطوع لترؤس مهمة إلقاء القبض على بورن، (أدت دورها أليشيا فيكاندر.) تدريجياً، خاصة بعد اغتيال القاتل العميلة الشابة التي أرادت أن تكشف لجيسون هويته وقصة تجنيده، تزداد ريبة هيثر في مديرها، وينمو شكها في مخططاته، وإيمانها ببراءة جيسون بورن. يقحم السيناريو على القصة موضوعاً معاصراً يتعلق بتكنولوجيا الاتصالات والتنصت، عبر شخصية مدير شركة شاب ذو أصل من شبه القارة الهندية، (لعب دوره ريز أحمد.) تقنع العميلة رؤساءها بأن بإمكانها إقناع جيسون بورن بالاستسلام والعودة إلى أحضان المنظمة، لكن رئيسها يدبر خفية اغتيال بورن خلال مناظرة بين المخابرات وشركة الاتصالات. ينجو جيسون من الفخ، وتكتشف هيثر الخدعة، فتقرر خفية مساعدة بورن على اختراق المؤسسة والحصول على المعلومات اللازمة لمعرفة ماضيه. عقب مطاردة عنيفة، يتمكن جيسون بصعوبة بالغة من القضاء على خصمه القاتل المحترف، ويهترق المؤسسة ليواجه غريمه مدير المخابرات، ويكتشف الحقيقة، ثم يضطر لأن يجهز عليه دفاعاً عن نفسه بعد أن عرف أن والده اغتيل لأنه أراد أن يحول دون تجنيد المؤسسة ولده كقاتل محترف. نرى جيسون بورن وهيثر في النهاية يتبادلان حديثاً يجري التلميح فيه إلى احتمال عودة بورن في جزء جديد من السلسلة، وإن يفاجئها كعادته باختفائه عن الأنظار.

    رغم أن فيلم "جيسون بورن" (2016) فيلم زاخر بالحركة والإثارة والمغامرة من أوله إلى آخره بصورة تحبس الأنفاس، وتجعل المشاهد يقضم أظافره بتوتر بالغ، إلا أن القصة استنفذت أغراضها. لا شيء جديد أضيف إلى الحكاية الأولى المشوقة التي أبدعها خيال الروائي روبرت لودلوم. بل على العكس، نجد الفيلم الجديد عبارة عن تكرار للحن ينتمي إلى الماضي، مع تنويع على العزف فقط. كل شيء متوقع سلفاً، فليس من المعقول أن يردي قناص مرتزق بورن الذي سبق أن أردى عدة قناصين من قبل. ربما لو كان هذا الفيلم هو الثاني من السلسلة، لكان مقبولاً، بل حتى ناجحاً جداً. لكن تفوق فيلم المخرج غرينغراس نفسه "إنذار بورن" (2007) لم يترك مجالاً لشيء يضاف، إذ نال ذلك الفيلم 8.1 ، وهو رقم تجاوز كل ما سبقه وما تبعه، لغرينغراس أو لسواه. أما الفيلم الجديد "جيسون بورن" فتقييمه لم يتجاوز 7.2، لا لشيء سوى لأن الجمهور ملَّ اجترار قصة أصبحت مألوفة ومعروفة، مهما بلغ إتقان صنعة التصوير عند باري أكرويد، والمونتاج عند كريستوفر روس، وهو كاتب القصة والسيناريو الحوار في الوقت نفسه. أما الموسيقا التصويرية فألفها اثنان هما ديفيس باكلي وجون باول، وإيقاع لحنها صار شهيراً مثل ألحان أفلام جيمس بوند وإنديانا جونز وسلسلة "مهمة مستحيلة" المعروفة.

    حافظ مات دامون على تقمصه لدور جيسون بورن، الذي ارتبطت شهرته به. والحق يقال، إن الفيلم لم يمنحه مشاهد للأداء العاطفي بقدر ما منحه فرصاً للمطاردات والحركة والقتال القريب، وهي مشاهد جرى تصويرها بكاميرا متحركة أو على الكتف لإعطاء مصداقية وجعل المشاهد يتوحد مع البطل ويشعر بأنه منخرط في المشهد معه. كذلك، لم تنقص تومي لي جونز الخبرة العريقة لتجسيد دور مدير المخابرات الشرير الداهية الذي يقود عملية خداع كبرى لتصفية كل من يعترض طريقه من خصوم، ولا يتورع عن شيء في سيبل غايته. أيضاً، تابعت الممثلة جوليا ستايلز دورها في أفلام سلسلة بورن حتى مصرعها برصاص القناص. الإضافتان المميزتان في طاقم الممثلين تجسدتا في الحضور اللافت للممثلة الشابة أليشيا فيكاندر، وهي المرشحة بالتأكيد لتتابع السلسلة مع مات دامون في حال قرر المنتجون إنتاج جزء جديد يبدو أنه سيأخذ خطاً مختلفاً عن جميع الأجزاء السابقة. أما الإضافة الثانية المهمة، (ولها أساس في الأفلام السابقة حين أسند دور القاتل إلى النجم كلايف أوين،) فهي أن دور القاتل القناص أسند إلى ممثل قدير هو فنسنت كاسيل، الذي أداه بمهارة أضفت رهبة وخطورة على حضوره في جميع المشاهد على الإطلاق.

تبقى المشكلة الكبرى في فيلم "جيسون بورن" (2016) هي أن جعل السلسلة تبعد أكثر فأكثر عن قصة لودلوم الأساسية، حيث تناقل كتابة السيناريوهات اثنان من تقنيي المونتاج، بل إن أولهم أخرج الفيلم الذي استبدل فيه مات دامون بجيريمي رينر، ولم يلق كبير نجاح. هنا، يبدو كاتب السيناريو/المونتير كريستوفر روس حريصاً على الحفاظ على روح الرواية الأصلية وشخصياتها، لكنه لم يستطع خلق روايته البديلة أو حتى الرافدة. يبقى فيلم "جيسون بورن" (2016) فيلماً جديراً بالمشاهدة، لأنه فيلم مشوق لا يبعث على الملل. لكنه من الأفلام التي تكثر فيها الحركة، وتزداد سرعة الإيقاع، لينسى المشاهد بعد مشاهدته كثيراً من تفاصيل الفيلم، خاصةً وأن الغموض تلاشى إلى حد كبير منذ أن هتكت أسرار الأفلام السابقة. لعل المهمة القادمة لجيسون بورن تكون مختلفة حين يعود – كما كانت أولى روايات لودلوم "هوية بورن" –  للتصدي للإرهاب وخططه الآثمة للانتقام وبث الخوف وإحداث الدمار في المجتمعات الآمنة.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية