د. رياض عصمت
لم ترشح أية نجمة في تاريخ السينما لأوسكار أفضل ممثلة أكثر من ميريل ستريب. تاريخياً، تفوقت كاثرين هيبورن عليها في نيلها أربع جوائز أوسكار، بينما حازت ميريل ستريب ثلاثاً فقط حتى الآن. لكن ميريل ستريب فاقت بكثير في عدد الترشيحات كاثرين هيبورن، إذ غدا غريباً أن يمر حفل أوسكار دون أن تكون في عداد المرشحات، إذ رشحت 19 مرة. فيلم "فلورنس فوستر جنكنز" (2016) هو فيلم ميريل ستريب بامتياز، وغالباً سترشح للمرة العشرين، ومن المحتمل جداً أن تفوز بأوسكارها الرابع كأفضل ممثلة، خاصة وأن مخرج الفيلم ستيفن فرايرز قاد أكثر من ممثلة لشرف نيل أوسكار أفضل ممثلة، ومنهن هيلين ميرين عن فيلم "الملكة" (2006) وجودي دنش عن فيلم "فيلومينا" (12013) بينما شارفت غلين غلوس تحت إدارته على نيله عن دورها في فيلم "علاقات خطرة" (1988).
"فلورنس فوستر جنكنز" (2016) فيلم كوميدي من طراز رفيع، الشخصية المحورية فيه هي ميلياديرة أمريكية مغرمة بالغناء الأوبرالي دون أن تمتلك الموهبة الصوتية، لكنها تحظى رغم ذلك بإعجاب واسع النطاق في مجتمع نيويورك المخملي نتيجة ثروتها الطائلة وتكالب المنافقين من حولها. بالمقابل، نرى جانباً آخر من (فلورنس)، فهي إنسانة طيبة، مخلصة في شغفها بالفن، مؤمنة بأنها يجب أن تقدم عطاءً لأبناء وطنها، خاصة الجنود الذين يخوضون غمار الحرب العالمية الثانية. أما زوجها البريطاني (بايفيلد) فأحبها في شبابها حين كان ممثلاً مسرحياً ذا طموح يفوق موهبته، ولا ندري إذا كان دافع اقترانه بها وبقائه معها هو المال، لأننا نراه يعتني بها في شيخوختها، محافظاً على سرية علاقة غرامية كي لا يجرح مشاعرها أو يسبب لها أي أذى معنوي. صحيح أنه يستمتع بنعم ثروتها الطائلة، لكننا نراه إنساناً أنيقاً ونبيلاً في تعامله معها، بل حريصاً غاية الحرص على أن يبقيها هانئة بالوهم الذي تعيشه، حامياً لها بدهاء وموزعاً الرشوات لشراء المديح لها، أو مدافعاً بشراسة ونزق عن نجاحها المزعوم. الشخصية الثالثة المهمة في الفيلم هي عازف بيانو شاب يدعى (ماكمون) وظفته ليرافقها في تمريناتها، ثم أصرت على ظهوره معها في حفلاتها وتسجيلاتها، رغم تحفظه المضمر إزاء ضعف موهبتها، وإدراكه ممالأة المجتمع الأرستقراطي والنقاد المأجورين لها. يتمحور سيناريو الفيلم، إذن، حول شحصية (فلورنس)، التي جسدتها ميريل ستريب بجدية لا تضاهى، لتزيد بذلك من جرعة الإضحاك لدى المشاهدين إلى درجة هستيرية، وسرعان ما يتحول الفيلم الجاد إلى فيلم كوميدي صارخ مع أداء ميريل ستريب الأوبرالي النشاز، علماً بأنها ممثلة قادرة على الأداء الغنائي السليم، سواء في أفلام سابقة أم في ختام الفيلم نفسه. هذه المرة أيضاً، أثبتت ميريل ستريب، ربما أكثر من أية مرة سبقت في الألفية الثالثة، أنها بالفعل تستحق لقب "أعظم ممثلة في جيلها،" فهي قادرة على تقمص مرهف وبارع لأصعب الشخصيات وأعقدها. من "كرامر ضد كرامر" أمام داستن هوفمان، إلى "اختيار صوفي"، وصولاً إلى "المرأة الحديدية" التي جسدت فيه شخصية مارغريت تاتشر، حصدت ميريل ستريب بسهولة وجدارة ثلاثة أوسكارات بين تسعة عشر ترشيحاً، علماً بأن مجمل ترشيحاتها إلى مختلف المهرجانات والمسابقات بلغت 322 ترشيحاً، نالت بينها 161 جائزة. هنا، تكشف ميريل ستريب لنا عبر تجسيدها شخصية فلورنس فوستر جنكنز مزيجاً من الكوميديا والتراجيديا بين حاضر منسوج من الوهم وماضٍ أسود من الخيبات والأحزان. لقد أصيبت فلورنس بمرض "السيفلس" وهي في ريعان شبابها عبر زواجها الأول، وها نحن نراها بعد البريق الاجتماعي والفني مخلوقة هشة وضعيفة، تؤويها خادمتها إلى فراشها، وينزع زوجها عن رأسها باروكة شعر تظهرها صلعاء. إنها مخلوقة حساسة، تعاني من رهاب الآلات المدببة والحادة كالسكاكين، بينما تحمل طيلة الوقت حقيبة جلدية عتيقة، ما نلبث أن نكتشف أن محتواها عبارة عن سجل وصيتها، التي تدون فيها توزيع إرثها الكبير بعد وفاتها. تكمن روعة الفيلم في أن الضحك الفاقع فيه ينبع من شخصية تقرب معاناتها الداخلية من جعلها تراجيدية. الممثل الرائع الآخر في الفيلم هو سيمون هيلبرغ في دور عازف البيانو الشاب البارع والطموح (ماكمون.) استطاع هذا الممثل، بالفعل، أن يقدم لحظات من الأداء الخارق في السينما حين استطاع المزج بين حالتين انفعاليتين معاً، الصدمة من سوء أداء صاحبة نعمته، والضحك الشديد الذي يحاول كبحه أمام الغرباء من الناس. كما صور برهافة روح المودة والصداقة التي نشأت بينه وبين فلورنس، بحيث يسايرها حتى آخر الدرب رغم كونه عازفاً كلاسيكياً جاداً، فيقبل أن يسجل معها أسطوانة، ويرافقها في حفل "كارنيغي هول" أمام ثلاثة آلاف متفرج. بدوره، لعب هيو غرانت شخصية الزوج المتراوح بين منتهى الدماثة والصداقة واللطف مع زوجته، وبين شغفه بامرأة شابة جميلة، بتوازن يذكر بلاعب الأكروبات السائر على سلك مشدود. ما زال هيو غرانت نجماً، أحسن المخرج ستيفن فرايرز بإقناعه أن يعود عن اعتزاله ويؤدي هذا الدور. أما حبيبته، فأدت دورها الممثلة ذات الأصل السويدي ربيكا فيرغسون بحضور جذاب، خاصة حين تقطع علاقتها مع حبيبها عندما يصر أن يتشاجر مع من يسخر من زوجته فلورنس في بار، (وهي نهاية ناجحة درامياً رغم كونها مغايرة للحقيقة، لأن زوج فلورنس اقترن بحبيبته بعد وفاة زوجته الثرية.) لعبت دور زوجة اللحام المنحدرة من طبقة متدنية نينا آرياندا دورها الثانوي بصورة رائعة في مشهدين فقط، الأول عندما تنفجر ضحكاً هستيرياً أمام صوت فلورنس النشاز على المسرح، والثاني عندما تنبري بشهامة للدفاع عنها أمام ثلاثة آلاف متفرج، ثلثهم من الجيش، فتسكت الجميع بجرأة ليصغوا إلى من تضحي بكل ما لديها لإسعادهم. تموت فلورنس موتاً هادئاً على سريرها، وترحل راضية النفس، محاطة بمحبة الجميع. والغريب أن أسطوانتها سجلت بين الأكثر مبيعاً، وكذلك مشاهدة تسجيل حفلتها في "كارنيغي هول"، بالرغم من صوتها النشاز.
الحق يقال، لعب إخراج ستيفن فرايرز دوراً أساسياً في نجاح هذا الفيلم، فهو قائد تلك الأوركسترا العظيمة من الممثلين، وهو من استطاع التقاط أجمل ما في السيناريو البارع الذي كتبه نيكولاس مارتن. كان المخرج المبدع الذي اختار الاهتفاء في الظل ليظهر روعة السيناريو والأداء دون أية حذلقات أو استعراض للعضلات. قام بتصوير الفيلم داني كوهن، وبمونتاجه فاليريو بونيللي، وألف الموسيقا له ألكسندر ديسبلات. نال فيلم "فلورانس فوستر جنكنز" (2016) تقديراً قدره 7.3 درجة، والمرجح أن يكون منافساً قوياً على عدة أوسكارات.