قديس الماء" (2015) هو أول إسهام إخراجي كامل للنجم راسل كرو، الذي يلعب بطولة الفيلم أيضاً. إنه ينضم بهذا إلى سلسلة من كبار النجوم الذين غدوا مخرجين متمكنين يحظون بالشهرة والتقدير، ومن أشهرهم خلال العقود الماضية: وودي ألان، كلينت إيستوود، روبرت ردفورد، أنجلينا جولي، كينيث براناه وبن ستيلر. من المعروف أن انطلاقة راسل كرو الكبرى كممثل جاءت عبر أدائه دور البطولة في فيلم "المصارع" (2000) للمخرج ريدلي سكوت، ثم تابع تألقه في الأفلام التالية: "عقل جميل" (2001) للمخرج رون هوارد، "سيد وقائد" (2003) للمخرج بيتر واير، "الأيام الثلاثة القادمة" (2010) للمخرج بول هاغيس، الفيلم الغنائي "البؤساء" (2012) للمخرج توم هوبر، و"نوح" (2014) للمخرج دارين آرونوفسكي، (رغم أن هذا الفيلم الأخير لم يحظ بتقييم يليق بأدائه الرفيع فيه.) بالمقابل، تضمن تاريخ راسل كرو التمثيلي بكبوات أدائية عبر أفلام تحلت بالضخامة، لكنها لم تحصد للنجم اعتباراً كممثل قدير، بل بدا فيها وكأنه يكرر نفسه بنمطية خارجية مسطحة ومتوقعة ومملة، ومن بينها "روبن هود" و"رجل من فولاذ" و"الرجل ذو القبضات الحديدية" على سبيل المثال فقط. ربما يكون هذا هو الدافع الجوهري الذي حرَّض راسل كرو أن يخوض تجربة الإخراج، بل أن يغامر في فيلم "قديس الماء" بتحدٍ واضح، ليثبت للعالم أن موهبته الكبيرة كممثل ستتجلى واضحة عندما يمتلك زمام الإدارة الإخراجية بنفسه.
صنف "قديس الماء" كفيلم درامي/حربي، لأن خلفيته معركة (غاليبولي) الشهيرة في ختام الحرب العالمية الأولى، التي كانت أسفيناً شقَّ بنيان الأمبرطورية العثمانية وأدى إلى تفتيتها، رغم هزيمة الأوستراليين والنيوزلنديين فيها وخسارتهم عشرات الآلاف من الشباب. يلعب راسل كرو في الفيلم دور (السيد أوكونور)، وهو مزارع أوسترالي صلب البنيان يمتلك فراسة عجيبة في اكتشاف ينابيع المياه، بحيث أطلق عليه لقب قديس الماء. هذا المزارع وزوجته فقدا أولادهما الثلاثة في الحرب ولم يسمعا بعد مرور أربع سنوات أي خبر عنهم، بحيث لا يدريان إذا كانوا أحياء أم شهداء. تعاني الأم من كآبة مزمنة وحزن مستديم، وتلوم زوجها على كون قدرته المقدسة السحرية على اكتشاف الماء عاجزة استعادة أولادهما الثلاثة المفقودين. ذات يوم، يفتش السيد أوكونور على زوجته فيعثر عليها وقد انتحرت غرقاً نتيجة يأسها في العثور على أولادها الضائعين. يدفن السيد أوكونور رفيقة عمره حزيناً، ويقسم أمام تراب قبرها على أن يستعيد رفات أبنائهما الثلاثة ليدفنهم إلى جوارها في تلك البقعة من أرض الوطن. من هنا، تبدأ المغامرة المثيرة في السيناريو البديع الذي ألفه الكاتبان أندرو نايت وأندرو أناستاسياس. إن الأمل في روح أوكونور لا يموت. ألم يكن يروى لأولاده حين كانوا أطفالاً حكاية البساط السحري من "ألف ليلة وليلة" ليبث فيهم الأمل والحلم؟ هكذا، يرتحل أوكونور من أوستراليا النائية إلى تركيا ليتقصى آثار أولاده المفقودين في (غاليبولي). يصل إلى اسطنبول التي صارت تحت إدارة بريطانية، وسرعان ما يقوده صبي إلى فندق صغير تديره والدته الأوربية الشابة، التي فقدت زوجها التركي في الحرب، لتبقى متشبثة بوهم نجاته كي تتخلص من مضايقات شقيقه الراغب في ضمها إلى قائمة حريمه. تواجه أوكونور عوائق البيروقراطية العسكرية، ويرفض الضابط البريطاني المسؤول الترخيص له بالسفر إلى غاليبولي، قائلاً إنها /أرض أشباح./ لكن أوكونور لا ييأس، بل يزداد تصميماً، ويتسلل خلسة في قارب تهريب إلى غاليبولي، حيث يتعاون الضابط البريطاني مع رائد عثماني مسرح ومساعده على تحديد هوية الضحايا من كلا الطرفين. هنا أيضاً، لا يلقى أوكونور ترحيباً، بل يعلمه الجميع أن مهمته مستحيلة، وأن عليه أن يرحل. لكن إصراره على البقاء وتشبثه بالأمل يثيران شفقة الضابط المسؤول، فيأمر بغض النظر عن وجوده وإعطائه بعض الطعام. ما تلبث فراسة أوكونور العجيبة وحدسه الصائب أن يجعلانه يطلب من الجنود أن يحفروا موقعاً محدداً، فإذا بهم يعثرون على قلادتين معدنيتين تحددان هويتي ولدين من أولاده الثلاثة، ويستفز أوكونور عندما يخبره عسكري بأن جمجمة أحدهما مصابة مطلقة في الجبين مما يؤكد إعدام العثمانيين له. يثور أوكونور ويغضب ويهجم على الضابط العثماني ليقتله، فلا ينقذه منه سوى مساعده. لكن أوكونور يهدأ حين يخبره ذلك الضابط أن ابنه الثالث نجا، وأنه نقل كأسير حربٍ إلى سجن في اسطنبول. ينعش ذلك الخبر الأمل في روح أوكونور، ويعود إلى فندق الأرملة التي تأنس إليه، وتعلمه أشياء عن التقاليد المحلية مثل قراءة الطلع في فنجان القهوة، وكيف أن حلاوة السكر أو مرارته في فنجان القهوة تشير إلى الموافقة أو الرفض لدى تقدم أحدهم لخطبة فتاة. تصطدم الأرملة بابن حماها الملح في الاقتران منها خاصة عندما يصدم ابنها بأن والده قتل ولن يعود، وتتشاجر معه فيضربها، مما يدفع أوكونور للتدخل لتلقينه درساً دفاعاً عنها. يتنامى شعور الاستلطاف بين أوكونور والأرملة، ويأنس ابنها الصغير للغريب الذي يملأ فراغ والده الغائب، لكن العم الحاقد وزلمه يكمنون لأوكونور ويعتدون عليه بقسوة لا ينقذه منها سوى استدعاء الضابط العثماني المسرح له إلى مقره السري بواسطة بعض جنوده القدامى، الذين انضووا تحت لوائه في عصبة سرية. يناشد أوكونور الضابط على السماح له بأن يرافقه ورجاله إلى وسط البلاد حيث يعتزمون الانضمام إلى القوة الصاعدة التي يشكلها كمال أتاتورك، زعيم تركيا الجديدة المنبعثة من رمادها. خلال رحلة القطار في تركيا الممزقة بين قوات غازية من اليونان، وبين السلطات البريطانية والأوسترالية وسواها، يتعرضون إلى كمين بوناني يُقتل فيه الجميع ما عدا الضابط التركي الذي ينقذه أوكونور بأعجوبة ليهرب الاثنان من بطش مطارديهم اليونانيين. خلال هربهما، يتوقف أوكونور فجأة عند قرية صغيرة، ويهديه حدسه إلى أن ابنه الحي موجود في المكان. بالفعل، بالفعل، يبحث أوكونور حتى يلتفي بابنه الوحيد المتبقي في بناء على قمة جبل، ويخبره بأنه قطع المسافات الشاسعة ليجده ويعيد رفات شقيقيه ليدفنهما إلى جوار أمهما المتوفاة. يرفض الابن العودة، ويخبر أباه بتفاصيل مأساة مصرع شقيقيه خلال المعركة، إذ أصيبا وهما يحاولان إنقاذه، فاستشهد أحدهما على الفور، بينما ظل الآخر يئن من الألم حتى ناشد أخاه أن يطلق النار على رأسه ويريحه من العذاب. يعترف الابن لأبيه والدموع في عينيه بأنه هو من أطلق النار على رأس أخيه كي يريحه ويجنبه إثم الانتحار، وأنه لا يريد أن يعود بعد ما اضطر أن يفعل. فجأة، يندلع إطلاق النار، إذ يهاجم اليونانيون القرية، ويشتبكون مع المجاهدين العثمانيين من أهاليها. عندها، لا يجد الابن بداً سوى الانصياع لرغبة أبيه، ويفتح فوهة بئر سرية تؤدي إلى نهر هادر يلقي كلاهما بنفسه به، ليجرفهما الماء إلى بر الأمان. يعود أوكونور وابنه إلى فندق الأرملة وابنها الطفل وقد حقق جزءاً من أمنيته ووعده، فإذا بها تقدم له فنجان القهوة محلى زيادة عن اللزوم لتوحي له برغبتها في الاقتران به زوجاً.
اجتاز راسل كرو امتحان الإخراج بنجاحٍ فاق نجاحه كممثل، إذ استطاع تقديم فيلم مليء بالمعاني الإنسانية، فيلم ينضح بالعاطفة، فيلم حافل بالجماليات، وفيلم مؤثر وشاعري. وراء سطح الألم والمعاناة وفقدان الأحبة، ها هو ذا فيلم يحتفي بالمحبة والغفران، ويحملنا في رحاب الأمل فوق بساط ريح رمزي، يلتم عبرها شمل الأب مع الابن، وتتوج قصة حب شفافة بنهاية تشي بالسعادة والتعويض عن الأسى والفقدان. لا شك أن سيناريو الكاتبين أندرو نايت وأندرو أناستاسياس كان العامل الأول وراء هذا النجاح، معتمدين على جملة وردت في إحدى الوثائق عن رجل أوسترالي قطع المسافات إلى (غاليبولي) بحثاً عن ولده المفقود. أسهمت باقي العوامل التقنية الممتازة بإضافات أيضاً، وفي مقدمتها الموسيقا التصويرية البديعة التي وضعها ديفيد هيرشفيلر، وتصوير أندرو ليسني، ومونتاج مات فيللا، وأزياء تِس سكوفيلد. أما البراعة الأكبر فتجات في إدارة طاقم "قديس الماء" بأمله من قبل المخرج راسل كرو في الوقت الذي لعب فيه الدور المحوري. والطاقم هنا يتسع ليتضمن الممثلين والممثلات المنتقين بدقة وبراعة، وفي مقدمتهم الممثلة الأوكرانية أولغا كورلينكو، (النجمة التي أطلقها فيلم جيمس بوند "طقوس العزاء" أمام دانيال كريغ، والتي تجمع ما بين الجمال والتمثيل الجيد،) في دور الأرملة صاحبة الفندق، وهو في واحد من أجمل أدوارها على الإطلاق. أما الممثلة القديرة جاكلين ماكينزي في دور السيدة أوكونور التي انتحرت حزناً على فقدانها أولادها الثلاثة، فهي تستحق جائزة للأثر العاطفي البليغ الذي تركه حضورها رغم قصر دورها. كما نجح المخرج في اختيار الممثلين الكوميديين التركيين يلماز أردوغان وسيم يلماز، ليقدما دورين تراجيديين يختلفان عن مسيرتهما الفنية تماماً بحرفية وإتقان. كذلك كان أداء الطفل ديلان جيورجيادس في منتهى البراءة والعفوية، وأداء رايان كور عاطفياً مرهفاً لشخصية ابن أوكونور الشاب الذي كتبت له النجاة، بينما لعب جاي كورتناي دور الكولونيل البريطاني ببرود مناسب للشخصية. في الواقع، ربما يعزا جزء مهم من إتقان التمثيل وإقناعه في فيلم "قديس الماء" إلى كون المخرج نفسه ممثلاً مشاركاً كقائد لأوركسترا الأداء القوي والممتع. هكذا، تمكن راسل كرو من استعادة أمجاده القديمة كممثل لامع، قبل الحقبة التي غلبت عليه فيها النجومية. هنا، جاء دوره في "قديس الماء" تتويجاً للتطور الملحوظ في أدائه خلال السنوات القليلة الماضية بعد حقبة من المراوحة والتكرار، حيث بدأ يؤثر أن يخوض تحدياً تمثيلياً عقب آخر، ويجدد دماءه عبر التقلب في أدوار متنوعة. حرص راسل كرو كمخرج على وجود تصوير ومونتاج وموسيقا وأزياء في غاية الإتقان والروعة والجمال، ليرتحل بالمشاهدين في خضم سيناريو مركِّب زمنياً بحيث يمزج الحاضر بالماضي في استعادات ذهنية أغنت الفيلم بشكل هائل، وتركت أعمق التأثير على الجمهور. فيلم "قديس الماء" هو أحد الإنتاجات السينمائية المتميزة في العام 2015.