سينما الرغبــــــات المـــــودوفـــــار


سينما الرغبــــــات المـــــودوفـــــار

حوار: فردريك ستروس ترجمة: فجر يعقوب

منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما (97) لا تنسوا أن أسم المودوفار عربي أنت محكوم بالصورة فقط، فلا (نساء على حافة انهيار عصبي) يخفف من لوعة الحكم وقسوته في هذا الخلاء البصري المنقطع النظير، هكذا ستمضي السنوات تلو السنوات وأنت تصفق لصاحب الفيلم، كلما مر من أمامك في مهرجان، أو شارف على الانتحار في استوديو قريب من نميمة الضوء ووشايات السينما. تعالوا نتفحص كل ما هو روحي وحميم في تلك الحافة، وسوف نجد على الأغلب ظلالاً عارية في الممرات، وسنفترض في هذه الظلال المترفة إننا نتعرض لفحص ميكروسكوبي، قبل أن يصرخ أحدنا على المخرج أن (تعال وأحكم وثاقي)!... ربما تأخرنا بالصراخ، أو أننا نفتقد إلى علته، فهذا كان يجب أن يحدث قبل عقد ونصف، وأن حدث ودوّى الصراخ الآن فهذا محض كوميديا مزيفة غارقة بالديون والألوان والأحجيات. سنقوم بجولة عند تلك الحافة، فهذا سلاح يخصعنا للفانتازيا، فنحن بدورنا (كمشاهدين شرسين) لسنا مهمشين إلى ذلك الحد، حتى تضيع أحلامنا منا عند أقدام المخرج اللئيم، والذي يحيي بإشارة من يده كل تلك الطقوس المشتهاة وهي تنقط من أداء ممثلتيه الرائعتين كارمن ماورا، وفيكتوريا آبريل اللتين خلق معهما (باستضافة الكاميرا) قصة حب، مع أنه هو من يبدو ذلك النجم البراق في الاستوديو. هذه فلسفة ألوان وديكورات (عجقة). ذلك إنه من هنا يبدأ كل شيء. يفتقد المرء في هذه الظلمة إلى الصوت الإنساني وصاحبه جان كوكتو... نفتقد إلى البهجة، فيبدو معه الهزل أقرب إلى مفاجأة متوثبة وغارقة في يقين الصورة، لأن هذا الصوت هو رسم للصورة الكوميدية لواحد من أكثر أفلامه كوميديا. نقطة الضعف هنا بديهية، فالرجل بعمله على الصوت منطلقاً من فكرة حقه في الكتابة يكتشف من خلال رغبته بالقول، وهي لا ترتبط بالصورة، ذلك إن الرغبة جامحة بالعمل فقط مع كارمن ماورا ليرى إلى أين يمكنه الوصول المخرج في الاستوديو وبيده سلاح وهو يفكر بالصوت الإنساني، لأنه محض حوار داخلي، حوار ينشأ من التدافع بين الرموز على خشبات الأهواء والتقلبات وحتى التقرحات، لأن العمل مع كاومن واحدة كان مثالياً في حالته، وهو يعاين هذه المرأة المتروكة المهملة، المتشظية في نص جميل كتبه كوكتو لمعاينه هذه المرأة في فيلم روائي طويل يرغب بإطالته وإطالة كحكاء كبير يمتحن الروح في معركتها الفاصلة مع الألوان، ومع حياة البطلة ذاتها التي تنتشر بمحض الصدفة في حياة نساء أخريات، على أن الصوت الإنساني اختفى من الفيلم، وأصبح مجرد عتمة، والديكور... ديكور فقط. امرأة حزينة وساخرة ومتشائمة تقلب رماد الانتظار على أسرار حقيبة ممتلئة بالثقوب والذكريات التي تربطها بالرجل الذي تحب. وبالرغم من أن كوكتو موجود في الهزيع المخفي من الفيلم، فإن المسرح الذي يوقد الصوت لا يعود ينتمي إلى مؤلفه، وإنما إلى كوميديا الانتباه. يصل المخرج هنا من دون أن يعير انتباهاً للسيناريو المكتوب على فخامة الورق، هذا ما تحدث عنه مصوراً في الفيلم، فهو يرتبط بتلك النوعية من الكوميديات الأميركية، لكن السيناريو المبجل مكتوب بطريقة آلمو – دراما يشبه اقتباساً عن مسرحية، والأفلام عنده تولد من استعراضات مسرحية وببنية من ذات النوع. فيلمان... حزمتان من الضوء تحكيان قصة سجينة فضاء واحد، لكن شيفرة هذين الفيلمين تتحمل مغامرة المسرحة الشاقة بما أنها تدور وتدور في مكان واحد. ما من أحد يخضع لسطوة الضوء الخلاق ويجلس ليكتب، ويجد أن قصته تتطور بطريقة عشوائية قليلاً حتى تؤمن بخياله الزائد، ذلك أن هذه الطريقة لا تضحي بالبطل، ففي حالتي هذين الفيلمين يجرب المخرج اللون وتأجيج الفروقات في الأصوات وهو يدور حول أبطاله الأساسيين. وهذا واضح من طريقة النداء الذي يطلقه المحكوم بالصورة سلفاً. فالصوت الذي يصرخ في (تعال وأحكم وثاقي) كان يمثل الآخر الذي يعيش وراء جدران منزل بابه مقفل، فيما الآخر في (نساء على حافة انهيار عصبي) يظل بابه وشباكه مفتوحين دوماً، ويسمحا بالدخول والخروج للكثير من الآخرين....!! هل هذه شاشة عريضة للأمل؟.... لا....!! هذا قياس عريض جداً، كما في (كعوب عالية). قياس راق للكوميديات الراقية، الحافية على جسر الذهب وإن كان صاحب هذه الكوميديات لا يخضع للقوانين، يشهد على ذلك قياس الفيلم، الديكورات، البنية الدرامية، أداء الممثلين الذين يتكلمون بسرعة كما لو أنهم لا يفكرون بما يقولونه أبداً، والعمل في ذلك الكوميديات الأميركية – التي لا تناسبه – يتم باللقطة المتوسطة، وبالإطلاق لا يتم التصوير فيها باللقطات المكبرة، كأن تصور ميكروفوناً وفماً فقط. لكن لم تكن كوميدية تسمح له بالاختلاف. المعنى في صوت الرجل، الرجل الذي يجنن كل النساء وينجح في دفع امرأته للهرب من الجنون، ومن المشفى الذي كانت مسجونة فيه، هنا احتلت اللقطات المكبرة الفيلم، وتنفس المخرج حريته: فم الرجل – الميكروفون – والصوت... الصوت. حقاً الكوميديات نوع مزيف، فالمخرج يريد أن يبدأ الفيلم من "ماكيت" تعيش فيه بيبا، وهذا المكان تضيئه الشمس التي تدخل من الشباك بأنفة وغلبة واقعية. هكذا يبدأ بأغنية لولا بيلتران "تعيسة أنا"... تعسة لأنها مهملة، وهكذا يكون التصوير مشغولاً بدقة من دون المبالغة في "نظافته"، وهذا بحد ذاته يدفع لخلق توازن في الحالة القصوى، وما من توضيح إلا ويكون متعالياً، ولكن هذا لا يخيف، فالألوان الصاخبة في أفلامه في إسبانية 100%، وهي مبالغة في إسبانيتها، ولكنها لا تستخدم في إسبانيا وهي تقدم صورة عن المكان الذي وقد منه، ذلك أن الثقافة الإسبانية باروكية جداً، وحيوية ألوانه في الصورة طريقة لمصارعة اليباس في جذوره، فالأم ارتدت الأسود طوال حياتها، وكانت محكومة بصورة الحداد على موتى كثر من العائلة وبعضهم قتل في غابر الزمان. ألوانه كانت بمثابة جواب طبيعي انطلق من حزن الأم ليتحول إلى حزم ضوئية. ووحدها الطبيعة الآدمية تقرر في العتمة، بما أن الأم وضعته طفلاً بوسعه التعاطي مع السواد، وفيما هو ولد في لامانش المعروفة بقسوتها وعنفها، فإن وعيه تشكل خلال الستينيات، وقت انفجار البوب، وهذا لوحظ بخصوص علاقته اللاوعية مع ألوان الكاريبي كما لو أنه يحمل جزءاً من ذاكرة المقاتلين الأفذاذ وهم ينطلقون إلى عالم جديد. ميوله الطبيعية لاستخدام اللون تجيب عن صفات شخصية تخص أبطاله وهم زخرفيون في سلوكهم وفيما يحضر الأحمر في ألوانه دائماً دون يعرف لماذا، يرى فيه لوناً إنسانياً لأن كل المخلوقات محكومة بأن تموت. تضيء الصالة ويلمع وجه بيدرو آلمودوفار: لا تنسوا أن آلمودوفار اسم عربي...!! يصرخ المحكوم بالصورة... فيما حزم الضوء تعكس معنى النمية... في سينما الرغبات التي بين أيديكم. عندما تسلل آلمودوفار إلى السينما العظيمة، فإنه فعل ذلك بقوة الإنسان الذي كان يعد العدة لذلك من زمن طويل. الأفلام القصيرة هي من اقتادته للدخول على وقع ذلك الإيقاع الاحتفالي، والذي سبق عودة الديمقراطية والحياة إلى مدريد. ولسنوات خلت ظل المخرج الشاب أسير العزلة والمشاكل، بعد أن استبعدته المدرسة في سني طفولته، ووضعته في موقع المشاهد. وهذه السنين التي كافأته بسلطة الخيال لم تكن تعرف الحيرة. وبغض النظر عما إذا كان يمر عبر القراءة، الكتابة، أو مشاهدة الأفلام، فإن هذه السلطة كانت تحرره وتعصرنه في نفس الوقت، وبقدر ما هو بعيد عن الواقع، ظل قريباً من جوهره الحقيقي. (بيبي، لوسي، بوم، وبقية فتيات الحي) و (متاهة الرعش) قصتان مجنونتان تعنيان بشراً ليس لديهم أدنى شك بخصوص حقيقة واحدة وهي أن العالم يشبههم. وبالنسبة ليبدرو آلمودوفار، فإن الحياة المدريدية تشبه فيلماً كوميدياً من نوع جديد.

الفهرس...

- مقدمة... - عندما تكون الحياة مجرد كوميديا... - السينما بوصفها نزوة... - سيد الرغبات... - فن الأستوديو... - الجانب المعكوس في الخديعة... - رعش في مدريد... - بقلب مفتوح... - عشرون عاماً... - الحلم الأخير لأمي... - بيدرو والصمت...







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية