د. رياض عصمت
تستمر الأسطورة. تعود بنا السينما في العام 2015 إلى "العالم الجوراسي" بعد 22 سنة من انطلاقة الفيلم الأول "الحديقة الجوراسية" (1993). هذه المرة، تنحى ستيفن سبيلبرغ عن مهمة الإخراج التي تصدى لها في الجزئين الأول المذكور، والثاني "العالم المفقود" (1997)، مكتفياً بدور المنتج المنفذ كما فعل في الجزء الثالث (2001). لكنه تعلم من تراجع الجزء الثالث عندما كلف جو جونستون بالإخراج، فأسند المهمة هذه المرة للمخرج كولين تريفورو، مانحاً إياه صلاحية مطلقة في تغيير توزيع الأدوار، بحيث غادر السلسلة سام نيل ولورا ديرن وجيف غولدبلوم، وكذلك الممثل والمخرج الكبير ريتشارد أتبنبره – بعد وفاته – وهو الذي خلق شخصية جون هاموند، منشئ الحديقة الجوراسية بديناصوراتها متعددة الفصائل والأنواع. هكذا، حل محلهم جميعاً في "العالم الجوراسي" طاقم جديد كلياً يتصدره النجم الشاب الصاعد كريس برات والنجمة برايس دالاس هوارد والطفل تاي سيمبكينز والممثل الهندي عرفان خان.
"العالم الجوراسي" (2015) فيلم نضر وحيوي يعيد القصة لما بعد الفيلم الأول مباشرة، متجاهلاً الجزئين الثاني والثالث. تبدأ القصة من محاولة مديرة الحديقة الجديدة (كلير) إيجاد حل لتناقص اهتمام السياح وإقبالهم على الحديقة الجوراسية في تلك الجزيرة الساحرة المسماة (نوبلار)، فتعمل سراً بمساعدة عالم آسيوي على تطوير ديناصور جديد ضخم من أكثر من فصيلة، فإذا به يكتسب ذكاءً وشراسة بالغين تمكنانه من خداع مراقبيه والفرار من سجنه الحصين، بحيث سرعان ما يصدق المثل القائل "وينقلب السحر على الساحر." هكذا، يتحول الديناصور المطوَّر إلى خطر جسيم لا يهدد رواد الحديقة فحسب، وإنما يهدد سلامة ولدي أخت المديرة اللذين تستضيفهما في جولة يفترض أنها ممتعة، فإذا بالموت بين براثن وحش منفلت من عقاله يهيمن عليها. لا تجد المديرة سنداً يخلصها من ورطتها الشخصية والعامة سوى مدرب الديناصورات الشجاع (أوين)، الذي سبق أن درب أربع ديناصورات صغيرة على الاستجابة لأوامره. هكذا، عبر مغامرة تحبس الأنفاس، يتتبع كل من (أوين) و(كلارا) آثار الديناصور العملاق الشرس، إلى أن يجدا الصبيين التائهين في منطقة الخطر وينقذاهما، إنما ليصبح الأربعة فرائس محتملة لذلك الديناصور المطور جينياً بحيث يصرع جميع مطارديه المسلحين بخبث ومهارة هائلين. يحاول رجل طموح السيطرة على الحديقة بجلبه مقاتلين محترفين، منشئاً تحالفاً بينه كرمزٍ للقوة العسكرية وبين العالم الآسيوي كرمزٍ للقوة العلمية، لإعادة السيطرة على الوحش المنفلت من عقاله، لكن الوحش يثبت أنه الأقوى والأرهب. لا يجد البطلان (أوين) و(كلاارا) بداً من أجل التصدي لذلك الديناصور الشرس وإنقاذ رواد الحديقة منه سوى بإطلاق ديناصور آخر ليشتبك معه في معركة ضارية، إضافة إلى ديناصورات (أوين) الصغيرة المدربة. يوحي الديناصور الشرس والذكي للديناصورات الأربعة الصغيرة أن تتحول إلى صفه لتطارد مدربها وصحبه، وبصعوبة بالغة يتمكن (أوين) من استعادة ولاء ديناصوراته الأربعة لتسهم في تشتيت انتباه الوحش وقتاله قبل أن يلحق مزيداً من القتل والتدمير الكارثيين. لكن نهاية الديناصور المتوحش المنفلت من عقاله لا تأتي إلا عندما يشب أكبر الديناصورات حجماً من أعماق البحيرة الصناعية الكامن فيها ليقضمه ويلتهمه، تماماً كما سبق أن رأيناه يفعل حين يتغذى بأسماك القرش. ترى، هل تعمد كتاب سيناريو فيلم الكوارث "العالم الجوراسي" تضمين إيحاءات سياسية خفية كامنة حول سبل مقاومة الإرهاب، والحرب ضد /داعش/؟ لعل الفيلم تقصد التنبؤ بالمستقبل، لكن صدق البصيرة مرهون بما سيثبته الزمن القادم على أرض الواقع. المؤكد أن كتاب الفيلم ومخرجه حاولوا خلق بعدٍ سياسي رمزي أعمق لفيلم تجاري من أفلام الإثارة والتشويق، وهو أمرٌ يحسب لهم.
تتمحور قصص المؤلف مايكل كريشتون عن الديناصورات حول موضوع متشابه تجري أحداثه في جزيرة (نوبلار) الخضراء النائية التي يؤمها السياح بكثافة، حيث يتمرد ديناصور أو أكثر على النظام السائد لحديقة يفترض أنها صنعت بشكل آمن ومستقر يصلح لجني الأرباح عبر عقود طويلة من الزمن، فإذا بالرعب يهيمن فجأة على المكان الحافل بأفواج البشر الباحثين عن متعة الإثارة، ويحول النعيم إلى جحيم. في الواقع، لا يختلف سيناريو "العالم الجوراسي" كثيراً عن الفيلم الأول عبر إسهام الكتاب ريك جافا، آماندا سيلفر، ديريك كونولي، والمخرج نفسه. رغم تعدد أولئك الكتاب، تظل فكرة ستيفن سبيلبرغ السائدة في عديد من أفلامه حيةً ونضرة، ومفادها: "لا يجوز العبث بالطبيعة، لأن تشويهها من أجل أغراض تجارية ومادية سرعان ما ينقلب على العابثين ويأتيهم بشر مستطير." كما يقدم سبيلبرغ، ومثله هنا مخرج الفيلم كولين تريفورو، طرازاً أو أكثر من البشر الأدعياء، بعضهم مسلحٌ بالآلة الحربية والقوة، وبعضهم مسلحٌ بالعلم والذكاء، لكنهم جميعاً يفشلون في فهم مبدأ "وينقلب السحر على الساحر." تكمن الأسباب في كونهم شديدي الثقة بأنفسهم، بإمكانياتهم، بقوتهم، بذكائهم، وبأنهم ينتمون إلى عالم متعالٍ وصارم الإدارة، بحيث يعتقدون أنهم يملكون السيطرة التامة على مفاتيحه والتحكم بمخلوقاته وإخضاعها إلى الأبد. لكن شيئاً ما يحدث بالصدفة، ربما خطأ غير مقصود، أو اختراع شيطاني ما يعبث بالطبيعة على طريقة "فرانكنشتاين"، يقلب ذلك العالم رأساً على عقب، ويجلب عقاباً كارثياً يطال أولئك المتحكمين الأقوياء والأذكياء، كما يطال أيضاً عديداً من الضحايا الأبرياء.
قام بتصوير الفيلم جون شوارتزمان بشكل بديع، وقام بمونتاجه كيفن ستيت. أما الموسيقا التصويرية التي وضعها مايكل جياكينو فاستلهمت أحياناً بتوزيع مجدد موسيقا ملحن الفيلم الأول من السلسلة جون ويليامز، لتعيد التذكير بأن "العالم الجوراسي" يفترض أن يكون الجزء المتمم للفيلم الأول "الحديقة الجوراسية"، إنما في حلةٍ جديدة ونجوم جدد. حظي فيلم "العالم الجوراسي" (2015) بتقييم بلغ 7.7، ورغم أنه يقل عن تقييم الفيلم الأول البالغ 8.1، لكنه يتفوق على الفيلمين الثاني والثالث من السلسلة بقدر كبير من العلامات.