د. رياض عصمت
بالرغم من تعدد الاقتباسات السينمائية لحكاية "سندريللا" المعروفة للأطفال، إلا أن فيلم المخرج كينيث براناه "سندريللا" (2015) أثبت تميزه عما سبقه من أفلام استلهمت الحكاية الشهيرة التي تناقل المؤلفون روايتها من تشارلز بيرولت إلى الأخوين غريم، مسجلاً بهذا الإنجاز صفحة مشرقة في تاريخه الشخصي كمخرج، فضلاً عن تاريخ ممثليه. إنه إنجاز جديد لشركة "ديزني" ذائعة الصيت، التي سبق أن بدأت بإنتاج الفيلم بشكل كارتون في عام 1950، كما لا يغفل المرء جودة أفلام مثل "سندريللا" (1957) من بطولة جولي أندروز، و"سندريللا" (1965) من بطولة جنجر روجرز، و"حتى آخر الزمان: قصة سندريللا" (1998) من بطولة درو باريمور، وعديد منها ينتمي لطراز الميوزيكال. بالمقابل، نلاحظ أن ثمة اتجاهاً في السنوات الماضية لإحياء قصص الأطفال، فقد ظهرت مقاربات مختلفة لحكاية "الحسناء النائمة والأقزام السبعة" أو "بيضاء الثلج"، منها فيلم "في الغابات" من بطولة ميريل ستريب، وفيلم "بياض الثلج والصياد" الذي لعبت فيه تشارليز ثيرون دور الملكة الساحرة الشريرة، وفيلم "مرآتي.. مرآتي" من بطولة جوليا روبرتس، و"ماليفسانت" من بطولة أنجلينا جولي، وفيها تفوقت ممثلات الشخصية الشريرة على ممثلات دور البطولة الشابة. هذا الطراز من الأفلام هو الطراز العائلي المفضل لشركة "ديزني"، رغم منافسة شركات أخرى لها في هذا المجال الفني الرابح.
لعل اختيار كينيث براناه للقيام بإخراج هذا الفيلم له دلالة. إنه أهم مخرج خلف لورنس أوليفييه في مسيرته الإبداعية، فهو في الأساس ممثل مسرحي شكسبيري قدير تصدى كمخرج لتقديم بعض مسرحيات شكسبير سينمائياً خلال ربع القرن الماضي، وهي: "هنري الخامس"، "ضجة بلا طائل"، "هاملت"، "خاب سعي العشاق" و"كما تهوى". كما ظهر ممثلاً لدور (ياغو) في فيلم "عطيل" أمام لورنس فيشبورن في دور (عطيل) تحت إدارة أوليفر باركر الإخراجية . جدير بالذكر، إن كينيث براناه تقمص دور لورنس أوليفييه نفسه بإتقان مدهش في فيلم "أسبوعي مع مارلين" عن تجربة عمل أوليفييه مع مارلين مونرو في فيلمه "الأمير وفتاة الاستعراض". لكن براناه، صاحب رصيد يتألف من 56 دوراً تمثيلياً، اتجه في السنوات العشر الماضية بقوة إلى الإخراج، سواء شارك في تمثيل الفيلم الذي يخرجه، (كما فعل في فيلم الإثارة والتشويق "جاك رايان: عميل الظل"،) أو لم يشارك، (كما فعل في فيلميه الكبيرين "ثور" و"سندريللا"،) وذلك ضمن 17 فيلماً أخرجها بين عامي 1989 - 2015.
أول ما يسترعي النظر في فيلم "سندريللا" (2015) هو المستوى الرفيع للأداء التمثيلي، ضمن براعة مشهدية مبهرة الجمالية والإتقان. نعزو هذا إلى حسن تقدير المخرج براناه للنمثيل الجيد، كونه ممثلاً من أرفع طراز. هكذا، نجده قد أسند دور الخالة زوجة الأب إلى النجمة الأوسترالية القديرة كيت بلانشيت، وهذا في حد ذاته أول إنجازاته المهمة، إذ قدمت بلانشيت الشخصية بإبداع مجدد وإشكالي أكملت به ما اختاره لها كاتب السيناريو كريس ويتز من حوار منح شخصيتها طابعاً إنسانياً مقنعاً، بالرغم من كل النفور الذي يوحي به سلوكها. بدت الشخصية في هذه النسخة من "سندريللا" جميلة وأنيقة وطموحة ومقهورة، بقدر ما هي قبيحة وفظة وقلقة ومحبطة. بالتالي، رغم أن هزيمتها تثير الشماتة لدينا، لكننا نشعر بشيء من الأسى لمصيرها، ونتمنى لو أنها لم تقدم على الإساءة البشعة لابنة زوجها الراحل تستحق معه النفي كعقاب. صحيح أن الشر عندها مبرر، لكنه عندنا يبقى غير مبرر، ومن يزرع سوءاً، يحصد سوءاً. على النسق نفسه، جاء أداء صوفي ماكشيرا وهوليداي غرينغر لدوري الابنتين، فقد قدمتا الشخصيتين بشيء من الكاريكاتيرية الفكهة الممتزجة بالسماجة والجشع، لكنهما تثيران الغيظ والضحك أكثر مما تثيران الاشمئزاز والنفور. أسند المخرج دور الملك الأب إلى الممثل المسرحي الشكسبيري القدير ديريك جاكوبي، بينما وزع دور الجنية الطيبة إلى الممثلة الموهوبة عيلينا بونهام كارتر، ذات الحضور المميز في معظم أفلام النجم جوني ديب، في حين وزع دور الدوق الكبير إلى الممثل المخضرم ستيلان سكارسغارد. من ناحية أخرى، أعطى المخرج ممثلين أكفاء أقل شهرة فرصاً ممتازة أعطوا فيها بلا حدود. أول هؤلاء الممثلة التي أدت دور والدة سندريللا، هايلي آتويل، فقدمت أداء لافتاً للنظر ومرهفاً للغاية عبر تعابير وجهها الصادقة، نظرة عينيها الحنون، تجعد ذقنها المؤثر، ونبرة صوتها المحب. ثانيهم، بن تشابلن في دور والد سندريللا بشخصيته التي تجمع بين الرجولة والحنان، بين حكمة أب عادل وزوج مغلوب على أمره عقب فجيعته بفقدان زوجته واضطراره لملء فراغها بالاقتران بأرملة حسناء ذات ابنتين مدللتين ومفسودتين. أما دور الكابتن، فأسنده المخرج للممثل الأسود ضخم البنيان نونسو آنوزي، الذي سبق أن خطف الأنظار في فيلمه السابق "جاك رايان: عميل الظل"، رغم دوره الثانوي فيه كقاتل محترف. لكن العبء الأكبر والمراهنة الأعظم وقعت على كاهل ممثلة وممثل من جيل الشباب لعبا دوري سندريللا وعاشقها الأمير الذي يغدو ملكاً. لم يكن اختيار الممثلة الشابة ليلي جيمس عبثاً، فإضافة إلى جمالها الفطري، براءة ملامحها، ورشاقة قوامها، قدمت أداءاً مرهفاً وحاراً للدور وهي تجسد باللحم والدم نصيحة أمها: "تحلي بالشجاعة، وكوني عطوفة." في ختام الفيلم، وبعد هزيمة الخالة زوجة الأب، تلتفت سنديللا لتقول لها: "إني أسامحك،" مؤكدة أنها لم تتخل عن نصيحة أمها الحكيمة في أن تكون رحيمة بعد أن نالت النصر. يتسق هذا الموقف مع تفسير شخصيتها المثالية التي جسدتها ليلي جيمس بإبداع ورهافة عذبة. منذ بداية الفيلم، مهد كاتب السيناريو والمخرج لما سيأتي لاحقاً بذكاء خلاق، فخلقوا شخصيات فئران أربعة، ما لبثوا أن ألحقوها بسحليتين وأوزة، ليشكلوا جميعاً طاقم العربة التي ستذهب بسندريللا إلى حفلة القصر الراقصة التي سينتقي فيها الأمير عروساً. إنها شخصيات تشبه المخلوقات الأصلية وقد حولتها الجنية الطيبة إلى أحصنة وحوذي ومرافقين يقودون اليقطينة التي صارت عربة مذهبة. كذلك، أحسن المخرج اختيار الممثل الشاب ريتشارد مادن لدور الأمير، فهو الوسيم النبيل، الشاب الذي لا يرغب أن يبني زواجه على المصلحة، بل على الحب، حتى ولو لم تكن عروسه المنتظرة أميرة من النبيلات، بل فتاة عادية من عامة الشعب. جاءت الإضافة الأخرى الذكية والبارعة في خلق المؤلف والمخرج فرصة لقاء بالصدفة جمع بين سندريللا والأمير قبل الحفلة الراقصة كما في الحكاية الأصلية، وذلك خلال ممارسته الصيد في الغابة. بذلك انجذب الأمير إلى سندريللا لأن الفتاة البسيطة لم تعرف هويته لتطمع بثروته ومجده، بل اعتقدت أنه مجرد تابع متمرن يعمل في القصر انسجمت بالحوار معه وأعجبت برجولته. كما أن ذلك أسس لحوارات ومواقف بين الأمير ووالده المحب وهو يودع الحياة، مكتشفاً محبة ولده له، فيتوقف عن الضغط عليه، ويؤيد استقلالية قراره التي تؤهله لخلافته. كل هذا أفضل وأقوى درامياً بكثير من حبكة الحكاية الأصلية. تحطم الخالة زوجة الأب فردة الحذاء البلوري التي اخفتها سندريللا عن الأعين، لكنها لا تستطيع أن تطمر الحب تحت الرماد. إن الأمير يأمر بالبحث عن صاحبة فردة الحذاء البلوري التي عثر عليها على درج القصر في الليلة التي انطلقت فيها سندريللا هاربة قبل آخر دقات الساعة لتعلن منتصف الليل. عندما يراوغ الدوق الكبير في اتفاق سري مع الحالة زوجة الأب، يكشف الأمير العاشق الذي صار ملكاً النقاب عن تنكره في زي جندي ليعاقب وزيره الدوق الكبير على عدم انصياعه لأوامره، وليجرب فردة الحذاء البلوري بنفسه على قدم الفتاة اليتيمة سندريللا، وإن كان يعلم علم اليقين أنها فتاة أحلامه وشريكته على العرش. ينتهي الفيلم نهاية سعيدة بفرحة الشعب بملكه الجديد الذي انتقى واحدة من رعاياه لتصبح ملكتهم عن جدارة.
الحق يقال، أثبت كينيث براناه اتساع طيف موهبته الإخراجية، تنوعها وغناها. لم يقنع بأن يقتصر تاريخه على تقديم الشكسبيريات سينمائياً، فتنقل من أفلام الإثارة، إلى أفلام الخيال العلمي، وصلاً إلى حكاية الأطفال الخرافية "سندريللا"، التي ألهمت أجيالاً بعد أجيال. لا شك أن موهبة كينيث براناه تجوهرت باختياره أيضاً طاقماً فنياً مميزاً، تصدرته خبرات تصوير هاريس زامبرلوكوس، ومونتاج مارتن والاش، وموسيقا باتريك دويل، وأزياء ساندي باول. في الواقع، تضافرت جميع الجهود التقنية، بين حركة كاميرا، خدع بصرية، ديكورات خلابة، موسيقا ساحرة، أزياء خلاقة، لتجعل فيلم "سندريللا" (2015) من أنجح الأفلام العائلية الممتعة في السنوات الأخيرة الماضية، بحيث نال تقييماً قدره 7.7 جعله يحتل أحد مواقع الصدارة في السنوات العشر الماضية ضمن هذا الطراز من الأفلام.