نجاح بوليوودي جديد "باجرانجي بهيجان"
د.رياض عصمت
تفت النخبة من عشاق السينما بإنجازات أفلام هندية معدودة سبحت عكس التيار لمخرجين واقعيين مثل ساتياجيت راي ومرينال سن، رغم قتامتها في تصوير مآسي الحياة الحقيقية، غالباً بالأسود والأبيض، لبشرٍ من لحم ودم، مبتعدة عن الرقص والغناء والقتال والألوان الحارة والموسيقا الصارخة. نتيجة لذلك التناقض بين الاتجاهين، حاول جزء من السينما البوليوودية مع نهايات القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة الخروج من عنق الزجاجة والمزاوجة بين مسارين متباينين، بل على شيء من التناقص أحياناً. وفي الوقت الذي ظلت كثير من ستوديوهات بوليوود تنتج أفلاماً ذات بهارات تجارية مثل "3 بلهاء" (2009) للمخرج راجكومار هيراني، حاول بعض المخرجين والمخرجات بالمقابل جسر الهوة بين الاتجاهين التجاري والفني وجذب الجمهور العريض بأفلام تجارية الطابع مثل فيلم "ديفاس" (2002) التجاري، أو مخاطبة النخبة بأفلام فنية مثل "أسود" (2005) الإشكالي، وكلاهما - لوجه الغرابة - للمخرج سانجاي ليلى بهانسالي. كما قدمت المخرجة غوريندر تشادها أفلاماً عالمية مثل "إحرفها مثل بيكهام" (2002) و"عروس وتحامل" (2004) اقتباساً عن رواية جين أوستن المعروفة، وقدم المخرج فيك سارين فيلمه "التقسيم" (2007) ليعرض بنجاح على مستوى العالم كله، وقدم رام غوبال فارما فيلمه "ناشابد" (2007) عن كهل يقع في هوى فتاة في عمر ابنته المراهقة، أي نسخة هندية عن "لوليتا" نابوكوف، ولعب بطولته أميتاب باتشان. لكن بعض المخرجات والمخرجين الآخرين التزموا الجانب الفني الجريء اجتماعياً في أفلامهم حصراً، وإن خسروا الجمهور العريض أحياناً، فأوصلهم ذلك الخيار إلى الشهرة العالمية في المهرجانات، ومنهم المخرجة ميرا نايير بأفلامها "زفاف مانسون"، "سلام بومباي" و"كاما سوترا"، وهي أفلام سمح ببعضها، ومنع بعضها الآخر في الهند، لكنها عرضت في الغرب. كذلك نذكر المخرجة المبدعة ديبا مِهتا بثلاثيتها الإشكالية المثيرة للجدل بتطرقها إلى موضوعات كانت محظورة ومعتماً عليها: "نار" (1996)، "تراب" (1998) و"ماء" (2005). كما لمعت في تاريخ السينما الهندية الحديثة - بعد جيل شامي كابور – أسماء نجوم ونجمات وصلت شهرتهم إلى مستوى عالمي، بحيث ظهروا حتى في أفلام أمريكية وبريطانية رائجة، ومنهم أميتاب باتشان وإشواريا راي. أما على مستوى الهند نفسها، فبلغت شهرة آخرين حداً أسطورياً من النجومية والثراء، مثل سلمان خان، مادهوري ديكسيت، شاروخ خان، شابانا عزمي، سيف علي خان، نواز الدين صديقي، راني موكرجي، جون أبراهام، كارينا كابور، وعامر خان.
مؤخراً، انضم المخرج كبير خان إلى قائمة المخرجين العظماء في الهند بفيلمه الناجح "باجراني بهيجان" (2015)، الذي اكتسح شباك التذاكر في الهند بأسرها ليصبح ثاني أكثر الأفلام ربحاً في تاريخ السينما البوليوودية بعد فيلم PK، والفيلم من إنتاج سلمان خان وكبير خان، عن سيناريو وحوار أسهم فيهما المخرج كبير خان نفسه مع أربعة كتاب آخرين، بينهم فيجايندرا براساد، وهو صاحب القصة الأصلية أيضاً. أعتقد أن نجاح فيلم "باجراني بهيجان" الساحق ربما يغري منتجي السينما الأمريكية في هوليوود هذه المرة كي يقتبسوه ويعيدوا إنتاجه كفيلم أمريكي. بالتأكيد، من الصعب محاكاة حساسية العلاقة السياسية بين الهند وباكستان، بل بين اختلاف الديانات والثقافات حتى في الهند نفسها. يدور الفيلم حول قصة طفلة باكستانية خرساء في السادسة من عمرها، (لعبت دورها بإعجاز الطفلة هارشالي مالهوترا،) تضيع من أمها (لعبت دور الأم الممثلة ميهر فيج،) خلال رحلة بالقطار تقوم بها لمعالجتها في ربوع الهند. يعثر شاب هندي صائع (لعب دوره سلمان خان،) على الفتاة الضائعة ويشفق عليها، رغم تعثر حظه في الدراسة والعمل والحب، مكرساً حياته ليعيدها إلى عائلتها مهما واجه من صعوبات، تؤيده في ذلك الفتاة التي يحبها وترغب في الاقتران به (لعبت دورها كارينا كابور،) إذا حقق شرط أبيها (لعب دوره شارات ساكسينا،) في النجاح المنشود. يقرر الشاب أن يتسلل مع الطفلة عبر الحدود الهندية-الباكستانية بشكل غير مشروع، نظراً لعدم تمكنهما من الحصول على فيز تتيح لهما دخول باكستان بشكل نظامي، فيتعرض إلى الاعتقال ثم الهرب والمطاردة، ظناً من السلطات الباكستانية أنه جاسوس هندي، غير مدركين دافعه الإنساني النبيل تجاه الطفلة المسلمة الضائعة، التي أحبته وتعلقت به كمنقذها الوحيد في عالم شرس مليء بالذئاب البشرية. بعد فضول وريبة، يكتشف مراسل تلفزيوني مغمور (لعب دوره نواز الدين صديقي،) دوافع البطل النبيلة، ويساعده على التنكر ومراوغة مطارديه لإيصال الطفلة إلى والديها اليائسين من العثور على ابنتهما المفقودة في بلد آخر شاسع وواسع. يمر الاثنان والطفلة بسلسلة عجيبة من المفارقات الكوميدية، تصل إلى حد تنكر الشاب المنقذ في زي امرأة محجبة. وعقب معاناة مأساوية تصل إلى حد الضرب المبرح والتعذيب لانتزاع اعتراف من الشاب الصادق دائماً، يتمكن المراسل من بث قصة الشاب الهندي عبر الإنترنت إلى عموم الباكستانيين، فيتعاطف معه آلاف المواطنين الباكستانيين، ويصدقه ضابط أمن باكستاني فيخالف تعليمات قائده ويعمل على إطلاق سراحه. يهرع آلاف من الناس ليحتشدوا على طرفي الحدود بين الهند وباكستان ويباركوا عودة الشاب البطل سالماً إلى الهند بعد أن أدى واجبه الإنساني في باكستان، مخاطراً بحياته من أجل طفلة مسلمة لا تمت إليه بصلة، فنال الشهرة والنجاح في أعين مواطني البلدين ممن تتبعوا قصة مغامرته مع الطفلة الضائعة عبر "اليوتيوب" ومحطات التلفزيون التي بثت قصة المراسل المصورة. في الختام، لا يملك المشاهد إلا أن يذرف الدموع عندما تنطق الطفلة صائحة عبر سياج الحدود لأول مرة في حياتها منادية الشاب قبل أن يغادر: "عمي". يركض الاثنان في اتجاه بعضهما لعناق الوداع أمام عيني والديها وخطيبته وأهلها وحشود الناس في كلا البلدين، والجميع يبكي بحرارة، بينما عدسات التلفزيون تنقل للعالم كله النهاية السعيدة لمأساة الطفلة، وتضحية شاب من دين آخر لإعادتها إلى وطنها وأسرتها.
صحيح أن المصادفة تلعب دورها بكثافة في حبكة الفيلم، وتطول الاستعادات الذهنية لطفولة البطل وشبابه، ويقحم الاستعراض فيه خارج السياق أحياناً، لكن كل ذلك يترابط تدريجياً ليخلق متعة مبهجة بصرياً وعاطفياً. لا شك أيضاً أن التصوير البديع الذي قام به آسيم ميشرا، والمونتاج البارع الذي قام به راميشوار س. بهاغات، وموسيقا الفيلم الرائعة التي لحنها جوليوس باكيام كانت العناصر المتممة لنجاح الفيلم هذا النجاح المبهر عبر ثلاث ساعات إلا ربعاً، لا يشعر المشاهد بوطأة الزمن خلالها، بسبب الإيقاع السريع، طرافة المواقف، وتوزيع الأدوار الجيد، والأداء الممتع لكل من سلمان خان، نواز الدين صديقي، كارينا كابور، شارات ساكسينا، ميهر فيج، وبالأخص دور الطفلة الموهوبة هارشالي مالهوترا ففي أول أدوارها على الإطلاق، والتي أجزم أنه سيكون لها شأن بارز في السينما الهندية مستقبلاً. لا شك أن المخرج كبير خان حقق أعظم نجاحاته في هذا الفيلم باختياره المزاوجة بين قصة إنسانية مؤثرة وبين ملهاة مضحكة وطريفة في آن معاً. يتضمن الفيلم جميع البهارات التقليدية للفيلم الهندي، من استدرار للدموع عبر الميلودراما، إلى استعراضات مبهرة للرقص والغناء، إلى الكوميديا الفاقعة، إلى المعارك القتالية الضارية لإنقاذ الطفلة من براثن أصحاب بيت دعارة. لكن هذا المزيج الهندي التقليدي يقدم هذه المرة بذوق رفيع وإتقان حرفي عالٍ يجعل من فيلم "باجرانجي بهيجان" متعة للنظر والعاطفة معاً، بحيث يثير تارةً ضحكاً صادراً من القلب، وتارة أخرى مشاعر التعاطف والانفعال إلى درجة البكاء.