اد. رياض عصمت
يشكل نمط أفلام الإجرام جزءاً لا يتجزأ من تاريخ السينما الأمريكية. كثيراً ما أطلق على هذا النوع من الأفلام اسم "الأفلام السوداء"، ليس لأنها صورت بالأسود والأبيض فحسب، بل لأن نفسيات أبطالها مصبوغة بسواد الشر. ربما لو كانت بعض تلك الأفلام ملونة، لطغى عليها لون الدماء القانية وسميت "الأفلام الحمراء". يذكر عشاق السينما أفلام النجمين همفري بوغارت وجيمس كاغني في الخمسينيات، ثم يذكرون أفلام النجم روبرت دو نيرو في السبعينيات التي أخرج عديداً منها مارتن سكورسيزي منتقلاً فيما بعد إلى تبني نجم أكثر شباباً هو ليوناردو دو كابريو. الحق يقال، إن فيلم "القداس الأسود" (2015) يبدو في طرازه وأسلوبه كأنه واحد من أفلام سكورسيزي، رغم أن مخرجه ممثل شاب يدعى سكوت كوبر. يتمحور الفيلم بمجمله حول شخصية ويلي (وايتي) بلغر الآيرلندي، أرهب مجرم عرفته منطقة جنوب بوسطن، والذي تصدى لأداء شخصيته بتقمص بلغ حد الإعجاز النجم جوني ديب.
إنها قصة حقيقية عن المجرم ذي الأصل الآيرلندي وشقيقه السيناتور بيلي بلغر، وصديق طفولته وشبابه الذي أضحى ضابطاً في جهاز الأمن القومي "إف. بي. آي." جويل إدغارتون. تلك هي قصة الفيلم، فبينما ظل الأخ ذو المنصب السياسي الرفيع متجاهلاً لجرائم أخيه في حربه على المافيا الإيطالية وتصفيته كل من يشكل خطراً عليه بحيث أضاع مستقبله السياسي، ظل ضابط الأمن جون كونولي حليفاً وشريكاً وجاسوساً للمجرم بحكم صداقة الطفولة والشباب. يغلب على فيلم "القداس الأسود" طابع تسجيلي، ويتتبع كاتبا السيناريو مارك مالوك والمؤلف المسرحي البريطاني جيز باتروورث سيرة حياة المجرم المحترف ويلي (وايتي) بلغر خطوة فخطوة، والطريف أن لقبه "وايتي" - أي الأبيض - في حين يتسم سلوكه بالسواد. لكننا نراه تارةً يلاطف جارة مسنة كأنها عمته، وتارةً أخرى نراه يخسر في لعب الورق مسايراً أمه العجوز. أما في بيته مع زوجته وابنه الوحيد فصورته مغايرة كلياً لسلوكه الإجرامي العنيف، يتألم بعمق لمرض ولده الصغير ووفاته، ولفقدانه زوجته بعد حين. بالمقابل، لا يتورع عن خنق ابنة زميله أمام عيني أبيها لاعتقاده أنها وشت به للشرطة، ولا يتردد في اغتيال زميل آخر بدم بارد بطريقة وحشية للسبب نفسه. الواقع، إن مجرد النظر إلى جوني ديب وهو يجسد شخصية المجرم الرهيب يبعث القشعريرة في الجسم وشعور الرهبة في الروح. إنه يعذب ويقتل دون أن يرمش له جفن، حريصاً على عدم إبقاء شهود على جرائمه سوى أفراد عصابته الخلص المشاركين له في إراقة الدماء. أحياناً، يكلف من يقتل عوضاً عنه، ويكتفي بمراقبة التنفيذ في برودة أعصاب. وأحياناً أخرى، نجده يقود ضحيته بمعسول الكلام لينفذ فيه بيده حكم الإعدام. تتزايد شكوك ضباط "إف. بي. آي." في وجود "جرذ" خائن بينهم يغطي على جرائم ويلي بلغر، وتتجه أصابع الاتهام نحو جون كونولي ذي الأصل الآيرلندي. يتورط ويلي بلغر في تهريب شحنة أسلحة بالبحر إلى متمردي آيرلنده، وتصادر الشحنة ليعتبر شريكاً في الإرهاب. يدفع المجرم وصديقه ضابط الأمن ثمناً غالياً لتواطئهما. يتم اعتقال الضابط ويصدر في حقه حكم قاس لخيانته واجبه، بينما يختفى ويلي بلغر عن الأنظار حتى يتم اكتشاف مخبئه ويلقى القبض عليه بعد نحو ربع قرن من الزمان.
الحق يقال، إن فيلم "القداس الأسود" هو فيلم جوني ديب بامتياز. هذا الممثل الفذ، المتفرد بأدوار متباينة، تتراوح بين القرصان جاك سبارو في سلسلة "قراصنة الكاريبي"، وبين الهندي الأحمر تونتو في "الفارس المقنع"، وهو الذي طالما تصدى لأدوار وشخصيات في غاية الطرافة والغرابة، منها السفاح سويني تود، إدوارد ذو اليدين المقص وصاحب القبعات المجنون في "أليس في بلاد العجائب." لكن مهارة مخرج الفيلم سكوت كوبر أنه لم يكتف بروعة أداء نجمه المحوري، بل جمع طاقماً ممتازاً من الممثلين المتمرسين، يتقدمهم بنديكت كامبرباتش (بطل مسلسل "شرلوك" وفيلم "لعبة المحاكاة"،) ومعه كيفن بيكون، بيتر سارسغارد، كوري ستول، والممثلة داكوتا جونسون، وكل منهم قابل للترشح إلى أوسكار أفضل ممثل مساعد. جمع المخرج، إذن، مستوى رفيعاً من الممثلين القديرين، شديدي الإقناع، أقوياء الحضور، يتصدرهم بالطبع جوني ديب في دور من المرجح أن يرشح عليه لأوسكار أفضل ممثل، وربما يحظى به. في الواقع، ليست هذه هي المرة الأولى التي يلعب فيه جوني ديب دور مجرم خطير، فقد سبق له أن جسد شخصيتي جون ديلنجر وجورج جونغ، لكنها بالتأكيد أفضل مرة يجسد فيها شخصية مجرم بمثل هذا التقمص الهائل الذي جعل اسمه يضاف إلى قائمة تتضمن مارلون براندو، إلك غينيس، شون كونري، داستن هوفمان وسواهم من كبار النجوم. يحكى إنها المرة الأولى التي كسر فيها جوني ديب تقليد عدم حضور فيلم من بطولته، وذلك حين حضر "القداس الأسود" للنهاية بطلب من المخرج لدى افتتاح الفيلم في فينيسيا، وصرح ديب إن هذا الدور بالذات هو المفضل لديه بين أدواره قاطبة.
تكمن قوة الفيلم في واقعيته الفظة – إذا صح التعبير – فالعنف جزء لا يتجزأ من شخصية بطله ومن أحداثه الدامية، بل من لغته البذيئة بلهجة أهل بوسطن المحلية الممتزجة بنبرة آيرلندية. كان طول الفيلم في الأصل يقارب ثلاث ساعات, لكنه اختصر إلى ساعتين. قام الطاقم الفني بتوثيق دقيق لأحداث وشخصيات الفيلم، وجلب المخرج أشخاصاً عاصروها ليدلوا بإفاداتهم، تماماً كما تتخلل الفيلم نفسه شهادات اعتراف من أعوان المجرم. في نهاية الفيلم، تظهر تيترات مكتوبة تروي ما جرى لكل واحد من الشخصيات الرئيسة، والحكم الذي صدر بحقه. السيناتور، شقيق المجرم، ابتعد مضطراً عن السياسة ليشغل منصب رئيس جامعة، لكنه أقصي عنه حين اكتشف أنه على تواصل سري بأخيه المختفي عن الأنظار. جاء الحكم الأقسى بحق ضابط الأمن الذي خان واجبه، وتواطأ مع المجرم وعصابته في تغطية أعماله الإجرامية، وهو المحور الدرامي الأقوى في الفيلم. قام بتصوير الفيلم ماسانوبو تاكاياناغي، وبمونتاجه ديفيد روزنبرغ، ووضع الموسيقا له جنكي إكس إل. لكن مشكلة "القداس الأسود" الكبرى أن سعيه للدقة التسجيلية ورصد تفاصيل السيرة الذاتية لمجرم رهيب أضاع منه روعة تنامي حبكة درامية مشوقة ونابعة من خيال خصب، إذ كان من شأنها أن تجعل الفيلم أكثر إمتاعاً وجاذبية وتأثيراً عاطفياً، بدل أن يكون وسيلة لاستعراض قدرات جوني ديب الفذة كممثل. فيلم "القداس الأسود" يثير التقدير والإعجاب أكثر من الإمتاع. هذا ما جعله ينال تقييم 7.9 درجات من عشرة، ليكون بين طليعة أفلام هذا الطراز الإجرامي العنيف.
.