السفاح

الإصدار: العدد مائة و خمس و عشرون

السفاح

د. رياض عصمت
تشير كلمة (السفاح) Sicario إلى تعبير معروف في أمريكا اللاتينية يشير إلى القاتل المحترف، الذي يقوم بالاغتيال بتكليف وأجر معلومين. السؤال الكبير الذي يطرحه فيلم "السفاح" (2015) هو: هل هو أمرٌ أخلاقي ومشروع أن تواجه الولايات المتحدة الأمريكية عصابة لتهريب المخدرات المكسيكية بتجنيد قاتل محترف يقوم باكتشاف رأس الهرم وتصفيته هو وأعضاء عصابته وكامل أفراد أسرته؟ إن الجواب على هذا السؤال يهز ضمير شرطية مثالية ومنعزلة تدعى كيت، يجري اختيارها بناءاً على كفاءتها وشجاعتها لتكون الأنثى الوحيدة في فريق أمني غامض الهوية يخترق الحدود الأمريكية/المكسيكية لخطف أسير بهدف استخلاص معلومة عبر التعذيب عن نفق التهريب السري للمخدرات بين البلدين. يتصاعد العنف تدريجياً في فيلم "السفاح"، وتشهد الشرطية كيت بأم عينيها مدى العنف المسرف وغير المبرر في التعامل مع أي أشخاص تحوم حولهم الشكوك عبر إطلاق النار عليهم وتصفيتهم فوراً، حتى ولو أدى الأمر إلى مصرع بعض الأبرياء مع المشكوك بهم، كما جرى في المعركة حامية الوطيس في مشهد زحام السيارات على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، وهو أحد أروع مشاهد الفيلم إخراجاً. تحاول كيت مكرهةً التأقلم والانسجام مع رئيسها مات، نظراً لكونه وثق بها واختارها ضمن طاقمه المتميز، رغم أنها تصارحه بشكها في انتمائه للمخابرات المركزية الأمريكية (أدى دوره جوش برولين،) وكذلك تعرب لزميله اللاتيني الغامض أليخاندرو (أدى دوره بينشيو ديل تورو،) عن عدم راحتها للأسلوب العسكري. تضطر كيت مرغمة إلى إطلاق النار إنقاذاً لحياتها، لكنها تشعر تدريجياً أنها واقعة بين نارين، وأنها تقوم بما يتنافى مع المبادئ التي تلقنتها كشرطية، وتشك في الشرعية القانونية لسير تلك المهمة، مصارحة زميلها الشرطي الأسود بهمومها. تتعرض كيت لمحاولة اختراق من قبل أحد أفراد العصابة حين تكاد تستسلم لمداعباته الجنسية. عندما تلاحظ بالصدفة هويته الحقيقية الخفية، ينقض عليها محاولا خنقها، ولا ينقذها من ذراعيه الضاغطتين على عنقها إلا أليخاندرو، قبل أن تكتشف أن بطلها المنقذ ليس سوى سفاح مجند من قبل المخابرات المركزية لتصفية العصابة برمتها. يقوم فريق المقاتلين المحترفين المجند للمهمة باكتشاف مدخل النفق السري واقتحامه في عملية حربية عنيفة، لكن سوء حظ كيت أو مهارتها كشرطية يقودانها إلى مخرج في الجانب الآخر ترى فيه أليخاندرو يهدد بمسدسه أسيراً لمعرفة اسم ومقر رئيس عصابة المخدرات في المكسيك. تهيب بأليخاندرو أن يتوقف عن ذلك، فتفاجأ بأنه لا يتورع أن يطلق عليها النار، ويأخذ الأسير ويفر به هارباً. تنقذها سترتها الواقية من الرصاص، التي تعمد أليخاندرو أن يصوب عليها ليعيقها، لكن كيت تصطدم برئيسها مات بعنف وتمرد رافضة هذا الأسلوب البعيد عن القانون، فيصارحها بأن مهمتهم التي كلفوا بها هي تصفية العصابة بشتى الوسائل المتاحة، ومحاربتها بالأسلوب الإجرامي نفسه الذي يتبعه المجرمون. بالفعل، يشن أليخاندرو السفاح لوحده حرباً على فيللا رئيس شبكة تهريب المخدرات ويجندل أعوانه قتلى فرداى وجماعات، ثم يقتحم عليه خلوته وهو على مائدة الإفطار مع زوجته وولديه. يناشده رئيس العصابة ألا يؤذي عائلته ويحافظ على أرواح أفرادها، لكن السفاح ببرودة أعصاب بصدمه بأن يقتل زوجته وولديه الطفلين أمام عينيه، قبل أن يقوم بإعدامه بدم بارد. تفاجأ كيت ذات يوم بعد انتهاء المهمة وعودتها إلى سلك الشرطة بظهور أليخاندرو في شقتها المتواضعة، آمراً إياها تحت التهديد والوعيد بالتوقيع على وثيقة تثبت أن كل ما قام به قانوني ومشروع. ترفض كيت ذلك في البداية، لكنها تستسلم حفاظاً على حياتها، وخوفاً من السفاح الرهيب. عندما يغادر، تهرع إلى مسدسها، تخرج إلى الشرفة، وتسدد نحوه متهيئة للإطلاق. يلتفت وينظر إليها، فلا يطاوعها ضميرها المهني على أن ترديه قتيلاً، خاصةً وأنه أنقذ حياتها من قبل. هكذا، ينصرف السفاح آمناً حتى من المحاسبة القانوينة بعد أن أنجز مهمته على خير ما يرام في اغتيال أكثر من دزينة من الأشخاص بأمرٍ وتغطية من المخابرات المركزية الأمريكية، التي لا تتورع عن شيء من أجل الوصول إلى غاياتها، حتى ولو تخطت القوانين والأعراف الأخلاقية كافةً.

ينتمي فيلم "السفاح" (2015) إلى طراز عنيف وقاسٍ من السينما، لكنه فيلم يطرح أسئلة مهمة على الضمير من خلال توحد المشاهد مع بطلته المحورية. أخرج الفيلم المخرج الكندي دينيس فيلينوف، (الذي سبق أن أخرج فيلم "سجناء" من بطولة هيو جاكمان،) عن سيناريو وحوار تايلور شيريدان. لكن أبرز ما سما بهذا الفيلم إلى مصاف الفن الرفيع هو التقمص الواقعي الدقيق للشخصيات، بدءاً من الممثلة البريطانية القديرة إيميلي بلانت، التي توصلت إلى تجسيد مرهف للشخصية من خلال مرافقتها لشرطية حقيقية ودراستها تفاصيل سلوكها وردود أفعالها، وهي ممثلة جديرة بالترشح للأوسكار. كذلك، تقمص بنيشيو ديل تورو دور السفاح باقتدار بالغ، خاصةً بعد أن حذف المخرج 90% من حواره المكتوب في السيناريو، واكتفى بتعابير وجهه ذي الملامح اللاتينية وهو يتأمل ببرود مخيف، مجسداً شخصية استثنائية غامضة. بدوره، تقمص جوش برولين شخصية العميل الميداني للمخابرات المركزية الأمريكية، بصندله بدل الحذاء، بشعره المشعث، بلحيته غير الحليقة وثيابه غير المكوية، ولكن بالأخص بحركة تحيته المتكررة بذراعه من بعيد لبعيد. ضمن وجود طاقم تمثيل كهذا لفيلم "السفاح" علامة قدرها 8.1، وهي نادراً ما ينالها فيلم من هذا الطراز، مما يدل على قوته وحسن صناعته. قام بتصوير الفيلم روجر ديكنز، وبمونتاجه جو وولكر، ووضع موسيقاه الغريبة جوهان جوهانسون. إنه فيلم بالغ الواقعية، مما يشكل عاملاً إضافياً من الإثارة والتشويق، لكن صرامته الشديدة قد تكون السبب في عدم جماهيريته، لأن الفيلم ينكشف في النهاية، منتمياً إلى طراز يصعب أن يشاهده المرء أكثر من مرة واحدة لخلوه من توابل أفلام الحركة والمغامرة، وإن كانت شخصية السفاح التي ابتدعها بنيشيو ديل تورو قابلة لأن تتجدد وتحيى في فيلم آخر.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية