الذروة القرمزية

الإصدار: العدد مائة و ستة عشرون

الذروة القرمزية

د. رياض عصمت
إنه موسم "هالووين"، والسينما الأمريكية تحتفي سنوياً بقوة بهذا العيد الغريب. لعل فيلم المخرج المكسيكي الشهير غيلورمو ديل تورو "الذروة القرمزية" (2015) هو خير نموذج على إمكانية المقاربة الفنية الراقية لعيد الرعب. قطعاً، لا ينتمي هذا الفيلم إلى سلاسل مثل "صرخة" أو "هالووين" أو "سفاح تكساس ذو المنشار الآلي" أو "الجمعة 13" أو "أنا أعرف ماذا فعلت في الصيف الماضي". إنه فيلم من طراز مختلف تماماً، ليس فيلم رعب، بل يمكن تصنيفه ضمن "قصة أشباح". لكن بطلة الفيلم الكاتبة الناشئة إديث تصف مخطوط روايتها قائلة: "إنها ليست قصة أشباح، بل هي قصة فيها شبح." الواقع، ينطبق هذا الكلام على فيلم "الذروة القرمزية" برمته، فهو ليس فيلم أشباح، وإنما فيلم فيه شبح، بل أكثر من شبح. بالتالي، فالأشباح لا تشكل محور قصته الغرائبية، إذ أنها أكثر درامية وتعقيداً.
يبدأ الفيلم بالشابة إديث مجروحة الوجه، ملطخة الثوب بالدماء، وهي تؤكد وجود الأشباح. يعود بنا الفيلم بالزمن إلى الوراء، فعندما كانت إديث في العاشرة من عمرها، توفيت والدتها، وظهر شبحها المخيف لها في بهيم الليل ليحذرها من الخطيئة في الذروة القرمزية، ذلك التعبير الذي لم تفهم إديث آنذاك معنى له. تكبر إديث في كنف أبيها المحب والحريص عليها، وتطمح لنشر مخطوط رواية رومانسية فيها شبح، مستمتعة بصداقة مع رفيق طفولتها وصباها طبيب العيون الشاب المولع بقراءة روايات سير آرثر كونان دويل عن شرلوك هولمز. لكن ناشراً تقليدياً يخيب أملها، ويرفض نشر روايتها. في تلك الآونة من حياتها، يظهر فجأة شاب غريب قادم من انكلترا يدعى توماس شارب بصحبة أخته عازفة البيانو الموهوبة لوسيل، عارضاً على أبيها، رجل الأعمال الثري، وشركائه مشروع اقتناء واستثمار آلة حفر للمناجم يقوم باختراعها. ينفر الأب من الشاب، ويشك بخلفيته ونجاح مشروعه، ويصارحه علناً بأنه علم بأخبار فشل تسويق مشروعه في لندن وإدنبره وميلانو. لا يكتفي الأب بذلك، بل يكلف تحرياً خاصاً بنبش معلومات عن خلفيته. لكن إديث في تلك الأثناء تولع بالشاب الوسيم توماس، وتقع في هواه كرجل أحلامها. قبيل حفل العشاء الذي تتوقع إديث فيه أن يطلب الشاب فيها يدها، يجلب التحري للأب معلومات صادمة عن توماس، فيواجهه الأب مع أخته معاً بالحقيقة مستنداً إلى وثائق صحفية قديمة، آمراً إياه بأن يحطم قلب ابنته ويختفي من حياتها إلى البد. بالفعل، يضطر الشاب إلى الإعلان عن رحيله فجأة في آخر العشاء، ويكمل دوره بتوجيه نقد علني جارح لإديث على أسلوبها الروائي، يضطرها لأن تصفعه فيرحل. لكنه في اليوم التالي يعيد لها مخطوط روايتها مرفقاً برسالة يوضح لها فيها ما فرضه أبوها عليه، فتلحق إديث بتوماس دون علم أحد. أما الأب، فنراه يتعرض إلى هجوم وحشي آثم وهو في الحمام من شخص مجهول يحطم رأسه على المغسلة. يتبادل كل من الشاب وإديث مصارحة الآخر بعاطفتهما الجارفة ويتعاهدان على الزواج، في حين يصل من يستدعي الابنة للتعرف إلى جثة والدها في المشرحة. يعتقد الشرطة بأن رجل الأب زلت فانكسر رأسه، لكن الطبيب الشاب وحده يشك في أن مقتل الأب ليس قضاءاً وقدراً. تتزوج إديث من توماس، وترافقه عبر البحار من الولايات المتحدة إلى قصره في الريف الإنكليزي، ويا له من قصر غريب عجيب متآكل يشبه بيوت الأشباح! بالفعل، سرعان ما يظهر شبح امرأة حمراء اللون لإديث، وتبدأ بالشعور أن ثمة أسرار خفية حولها في أقبية ودهاليز ذلك القصر. تعيش إديث في دوامة الشك، ولوسيل لا تفتأ تقدم لها شاياً نكتشف أنه يقتلها قتلاً بطيئاً، كما نبدأ بملاحظة ملامح علاقة آثمة بين الشقيقين غريبي الأطوار. يتساقط الثلج، ويذكر توماس أمام إديث ذات مرة أن موسم "الذروة القرمزية" حان، حين يزداد احمرار الصلصال المستخرج من آلة الحفر التجريبية العملاقة، فتتذكر إديث ما قاله لها شبح أمها في الطفولة. يلاحق الطبيب الشاب القضية حرصاً على سلامة رفيقة صباه، فيكتشف عبر التحري أن توماس وأخته لوسيل أجهزا على والدتهما المتسلطة في طفولتهما، ويسافر عبر البحار لتحذير صديقته إديث. خلال ذلك، تتطور العلاقة بين الزوجين ذات مرة خلال انقطاعهما في فندق بسبب الثلوج إلى عاطفة حب حقيقية، ويساور توماس شيء من الندم والتردد إزاء تآمره وأخته على قتلها. أما أخته لوسيل، فلا يساورها أي تردد أو ندم، بل تنتظر كالصقر أن توقع ضحيتها على وثيقة تحويل ميراث أبيها إليها قبل أن تجهز عليها. بالصدفة، تكتشف إديث عبر رسائل وردت من لندن وإدنبره وميلانو أن زوجها توماس سبق أن تزوج ثلاث مرات من قبل، وأن زوجاته جميعاً توفين مسمومات. تسرق مفتاح صندوق يحمل اسم الزوجة الثالثة من لوسيل خلسة، وتتسلل إلى قبو القصر لاكتشاف السر. تعلم أن زوجة توماس الثالثة أنجبت منه، قبل أن تموت هي وابنها، وأن الشاي الذي تقدمه الأخت لها بوفرة مثل الزوجات الثلاث السابقات هو شاي مسموم. تكتشف إديث أن اسم الزوجة الثالثة هو "إينولا" Enola، والغريب أنه إذا قلبت الأحرف بالعكس لظهر معنى الكلمة "وحيدة" Alone. وتشعر أنها وحيدة ومحاصرة بالفعل بعيداً عن اي أمل بمساعدة. يظهر شبح المرأة لإديث مرة أخرى، فتخاطبها هذه المرة دون خوفٍ أو جل متسائلة عن سر ما يجري. يشير لها شبح المرأة إلى باب مغلق، تفتحه فترى الشقيقين في وضع آثم. تأتي المساعدة فجأة وإديث على وشك الموت من صديقها الطبيب الشاب الذي يعلمها أن الصحف نشرت ذات يوم أن الشقيقان أجهزا على والدتهما في الطفولة، وليسعى إلى إنقاذها من ذلك الجحيم، لكن لوسيل وشقيقها لا يتورعان عن طعن الطبيب بالسكاكين. تجبر لوسيل إديث على توقيع الوثيقة لنقل إرث أبيها لها، تمهيداً للإجهاز عليها كي يرث الأخ ثروتها لتمويل مشروعه الجنوني في إكمال اختراع حفارة المناجم، فتوقع إديث، لكنها تطعن لوسيل بالقلم نفسه في صدرها، وتهرب في أرجاء القصر. يحاول توماس في صحوة ضمير أن يحول بين قتل أخته لزوجته التي شعر بالحب يغزو قلبه تجاهها، فإذا بالأخت المجنونة تقتله بوحشية طعناً بالسكين. تطارد لوسيل إديث داخل القصر وخارجه كالمجنونة كي تثأر منها، وتجرح وجهها وتشتبك معها في معركة بأسلحة حادة، وتحاصرها قرب آلة الحفر العملاقة، فلا ينقذ إديث منها سوى ظهور شبح توماس القتيل والتفاتها إليه، إذ يتيح لها فرصة للتخلص منها بتحطيم رأسها بمجرفة. ينتهي الفيلم كما بدأ بإديث تعيد عباراتها عن الإيمان بالأشباح، بعد أن عادت وصديقها الطبيب إلى بر الأمان في أمريكا.

"الذروة القرمزية" (2015) فيلم استثنائي متفوق لمخرج موهوب اشتهر بسيناريوهاته وإخراجاته، التي وصلت إلى قمتها في "مطهِّر بان" (2006). إنه أحد المخرجين الذين يكتبون أو يسهمون في كتابة سيناريوهات أفلامهم بأنفسهم. هذه المرة، شارك ديل تورو الكاتب ماثيو روبنز في صياغة سيناريو "الذروة القرمزية"، ويقال إنه أعاد كتابته بنفسه حوالي 12 مرة قبل أن يرضى عنه، بل أجرى بعض التعديلات والإضافات بعد أن رسى على فريق التمثيل النهائي. في البداية، كان بنديكت كامبرباتش وإيما ستون مرشحين للبطولة، ثم جرى بعد اعتذار هما التعاقد مع توم هيدلستون (الشهير بدور الشرير في "ثور" و"المنتقمون"،) وميا واسيكوسكا (بطلة "جين آير" التلفزيوني الممتاز،) مع الممثلة القديرة جيسيكا تشيستن في دور لوسيل، وتشارلي هونام في دور الطبيب، وجيم بيفر في دور الأب. إنه طاقم تمثيل ممتاز بالفعل لفيلم يتمحور حول شخصيات معدودة، فيلم يصعب تصنيفه كفيلم رعب، رغم لحظات الصدمة العصبية للمشاهد فيه، فهو فعلاً قصة تحفل بالأشباح، وإن كان عمودها الفقري لا علاقة له بالأشباح، بل هو عمود فقري لموضوع درامي حافل بالغرابة وغير المألوف. قام دان لوستيسن بتصوير الفيلم تحت إدارة غيلورمو ديل تورو الإخراجية خلال 68 يوماً فقط، وصنعت ديكورات القصر الإنكليزي في الاستوديو من قبل جيفري آ. ملفين وشين فياو، وصممت الأزياء كيت هاولي، وقام بالمونتاج بيرنات فيلابلانا، وألف موسيقا الفيلم التصويرية فيرناندو فيلاسكيز. جعلت اللمسات الفنية المتكاملة فيلم "الذروة القرمزية" يتمتع بصور فنية رائعة، أضفت على نمطه الغرائبي ذي الطابع الأدبي أبعاداً جمالية أخاذة. إنه فيلم ينتمي إلى توجه ومستوى أفلام ذائعة الصيت، مثل "الآخرون" (2001) من إخراج أليخاندرو أمينابار وبطولة نيكول كيدمان، وبفيلم "الحاسة السادسة" (1999) من إخراج م. نايت شيمالان وبطولة بروس ويليس. جدير بالذكر أن فيلم "الذروة القرمزية" نال 7.2 علامة عن جدارة تامة.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية