الجحيم

الإصدار: العدد مائة ثمان و اربعون

الجحيم

د. رياض عصمت

    "الجحيم" هو ثالث فيلم للمخرج رون هوارد عن دان براون، (صاحب رواية "شيفرة دافنشي" الشهيرة،) وهو ثالث فيلم يلعب فيه توم هانكس شخصية البروفسور روبرت لانغدون، أستاذ فك الشيفرات، كشف الأحاجي وتحليل رموز الأديان القديمة من جامعة هارفارد، (علماً بأن هذا الاختصاص غير موجود على الإطلاق في الجامعة المذكورة.) يأتي فيلم "الجحيم" (2016) ثالثاً بعد عشر سنوات من فيلم "شيفرة دافنشي" (2006)، وبعد سبع سنوات من فيلم "ملائكة وشياطين" (2009)، وكان يفترض أن يأتي رابعاً بسبب إصدار دان براون رواية "الرمز المفقود" في عام 2009، لكن مشاكل وخلافات مع المخرج أدت إلى تأجيل شركة "سوني" إنتاجها، والضلوع بإنتاج رواية "الجحيم" التالية لها. الغريب، أن دان براون رافق إطلاق فيلم "الجحيم" بالإعلان عن قرب صدور روايته السابعة "الأصل" في سبتمبر/أيلول عام 2017، ولا أحد يدري بعد ما مضمونها. أما "الرمز المفقود"، فهي الرواية التي تصدى فيها براون  للماسونية، إيجاباً وسلباً، والتي تصالح فيها مع الكنيسة، كما أنها الوحيدة التي يخوض فيها بطله البروفسور روبرت لانغدون مغامرة ضد قاتل موشوم الجسد وهائل القوة في عاصمة الولايات المتحدة واشنطن دي. سي.، وليس في فرنسا أو إيطاليا كما جرت العادة، مذكراً بأول روايتين له قبل أن تطرق الشهرة بابه، "القلعة الرقمية" و"حقيقة الخديعة".

إذن، يعود دان براون بنا مرة أخرى إلى إيطاليا في "الجحيم"، وتحديداً إلى مدينتي فلورنس وفينيسيا العريقتين، في رحلة من الإثارة والتشويق. "الجحيم" هو جحيم دانتي، والفيلم يبدأ بمطاردة عالم شاب لامع من قبل رجال أمن سود، فيصعد هارباً إلى أعلى برج أثري، وعندما يجد نفسه محاصراً، لا يتورع عن إلقاء نفسه من أعلاه منتحراً. في اليوم نفسه، يصحو البروفسور الأمريكي روبرت لانغدون في مستشفى مصاباً بفقدان ذاكرة من أثر جرح في رأسه تقول له طبيبة إنكليزية تدعى سيينا بروكس إن سببه رصاصة. هي تتذكر لقاءه حين كانت طفلة صغيرة، لكنه لا يذكرها ولا يذكر حتى أنه غادر الولايات المتحدة، ويصطدم إذ يميز فلورنس من آثارها عبر نافذة غرفة المستشفى. كل ما يطالع ذهن لانغدون هو خيالات سوريالية لمشوهين وموتى يجوبون الشوارع بأشكال مخيفة كأنها أجزاء من كابوس. فجأة، تقتحم المستشفى امرأة ترتدي زي البوليس وتصرع طبيباً برصاصة متجهة نحو غرفة روبرت لانغدون لتصفيته. تبادر طبيبته سيينا إلى إقفال الباب وتهريبه من المستشفى بسيارتها، وتضطر لإيوائه في شقتها، محاولة جعله يستعيد ذاكرته دون فائدة. يعثر لانغدون في سترته على أسطوانة غريبة، يتمكن من فتحها ليجدها تعكس صورة جحيم دانتي التي تشابه ما يراوده من صور مفزعة، ويقرأ عليها كلمات إضافية تهديه إلى نقطة انطلاق في البحث من متحف مشهور. يحار لانغدون فيما إذا كان عليه أن يبلغ البوليس أم القنصلية الأمريكية، لكنه يقرر إبلاغ القنصلية، ويعطي عنوان فندق مجاور يمكنه مراقبته من نافذة بيت الطبيبة. يفاجأ روبرت وسيينا بوصول القاتلة راكبة الدراجة النارية من جهة، ثم بتدفق رجال بوليس معظمهم سود في إغارة على الفندق من جهة أخرى، فيتسللان هاربين بسيارتها مرة ثانية، وينجوان بأعجوبة. سرعان ما يأخذنا الفيلم في رحلة بحث عن حل الرموز عبر متاحف إيطاليا وسط مطاردة مثيرة من القاتلة المحترفة ورجال البوليس، برفقة عالمة  تدعي إليزابيث ترأس "منظمة الصحة الدولية"، كما نرى ممثلي هيئة أمنية سرية خاصة يرأسهم رجل هندي يدعى هاري. في المتحف، يكتشف روبرت لانغدون مع أمينة المتحف الإيطالية وسيينا سرقة التمثال الذي يمثل قناع الموت عند دانتي، وتذكره الأمينة أنه وعالم زميل يومض في ذاكرته كانا آخر من زار تلك القاعة. لدى عرض فيديو المراقبة، يفاجأ لانغدون أنه هو نفسه سارق ذلك التمثال، فيشهر السلاح، ويهرب ثانية، محاولاً استعادة ومضات من ذاكرته حول الدافع الذي حدا به لسرقة ذلك التمثال، وأين يمكن أن يكون قد أخفاه. يهتدي روبرت لانغدون ورفيقته سيينا إلى التمثال في متحف آخر، ويفك طلاسم الكتابة عليه. يحاصر البوليس المتحف، وتطارده وزميلته الطبيبة تلك القاتلة المحترفة، إلى أن يتمكنا من إيقاعها من علٍ لتقتل على أرض المتحف. يهرب روبرت وسيينا عبر أروقة المتحف، مطاردين من رجل البوليس الأسود وعناصره. يصلان إلى نافذة ذات قضبان حديدية، يتمكنان من فتحها بمساعدة بائعة غجرية في الخارج، لكن سيينا تنسل منها وتغلق النافذة أمام روبرت لانغدون، وتعلمه في تحول مفاجئ أنها عثرت على مبتغاها وعلمت منه مكان الفيروس الخطير، وأنها إنما كانت حبيبة العالم المهووس المنتحر، وشريكته في مبدأ ضرورة إفناء نصف البشرية ليعيش النصف الآخر بسبب نقص الموارد الطبيعية. يقبض ضابط البوليس الأسود على لانغدون، لكنه يخبره أنه بحاجة إلى مساعدته لإيجاد مكان الفيروس، الذي يخشى أن تحصل عليه رئيسة "منظمة الصحة الدولية" لتبيعه لجهة إرهابية. يحاول روبرت لانغدون جاهداً معرفة موقع الفيروس، لكن الشك ينتابه في أن الضابط الأسود هو العنصر الفاسد الذي يحاول الوصول إلى الفيروس للمتاجرة به، وليس صديقته القديمة رئيسة منظمة الصحة الدولية. لا ينقذ روبرت لانغدون سوى مداهمة الرجل الهندي الغامض رئيس المنظمة الأمنية، وإجهازه بخنجر حاد على الخاطف الأسود. يخبره الهندي أن مطاردة القاتلة له كانت كجرد تمثيلية، وأنه تم اختطافه وتخديره ونقله إلى فلورنس ليساعد على حل لغز مكان وجود الفيروس القاتل. يتوصل روبرت لانغدون إلى أن الفيروس مخبأ في مكان ما في اسطنبول، فيسافر ورجل الأمن الهندي ورئيسة منظمة الصحة الدولية إلى هناك، ويبدؤون البحث. يشك لانغدون أن الفيروس مخبأ في متحف شهير باسطنبول، تجري فيه الاستعدادات الأخيرة لإقامة حفل موسيقي عالمي يحضره جمهور من مختلف الجنسيات والدول. إلى هناك أيضاً تتجه سيينا بروكس وبعض الإرهابيين الخطرين الساعين إلى تفجير ينشر محتويات كيس بلاستيكي يحتوي الفيروس، مدفون تحت المياه في مكان الحفل ليصيب جميع الموجودين بالفيروس، فينقلونه إلى دولهم. يبلغ الفيلم قمة الإثارة حين يشتبك روبرت لانغدون والهندي وإليزابيث من جهة مع سيينا والإرهابيين من جهة أخرى في قتال شرس للوصول إلى الفيروس، الجماعة الأولى تسعى لاحتواء الكيس البلاستيكي في صندوق عازل، والجماعة الثانية تسعى لتفجيره ونشر آثارة المرعبة.  يموت الهندي ميتة شجاعة وهو يقاتل الإرهابيين، وتفجر سيينا نفسها لتنشر الفيروس، لكنها تفعل ذلك في وقت متأخر بعد أن تمكنت إليزابيث من احتوائه في الصندوق العازل. أما روبرت لانغدون، فيخوض لأول مرة (في الأفلام الثلاثة التي ظهرت فيها الشخصية،) معركة جسدية عنيفة مع آخر الإرهابيين لمنعه من فتح قفل الصندوق ونشر الفيروس القاتل، إلى أن يتمكن رجال الأمن أخيراً من قنص الإرهابي برصاص بنادقهم، ويطمئن روبرت وصديقته إليزابيث إلى زوال الخطر نهائياً والحجر على الفيروس في صندوق زجاجي محكم الإغلاق. 

    يعتبر المخرج رون هوارد واحداً من أبرز المواهب الإخراجية في السينما الأمريكية منذ فوزه بأوسكار أفضل مخرج بين أربعة أوسكارات أخرى عن فيلم "عقل جميل" (2001)، وتلاه بنجاح آخر عن فيلم "رجل السندريللا" (2005).  بدأ هوارد حياته الفنية كممثل طفل في مسلسل "عرض آندي غريفيث" التلفزيوني بالأسود والأبيض، قبل أن ينضج ويدرس ويخرج 43 فيلماً، ويساهم في إنتاج 107. بالرغم من كون مغامرة رون هوارد في فيلم "شيفرة دافنشي" لم تنل أكثر من 6.6 درجات، نظراً لصعوبة الرواية، كثرة المعلومات فيها، وشهرتها المدوية بعد أن طبع منها أربعين مليون نسخة، فإن المخرج المتمكن تابع المشوار ليحسن النتيجة في "ملائكة وشياطين" إلى 6.7، وكان كاتب السيناريو لكل من الفيلمين آكيفا غولدسمان. أما في الفيلم الثالث عن رواية دان براون "الجحيم" (2016)، فإن النتائج الأولية لتقييم النقاد والجمهور جاءت أقل بقليل من الفيلمين السابقين، إذ لم تتجاوز 6.4، مع اعتقادي بأن كاتب السيناريو ديفيد كويب استطاع بمهارة إجراء بضعة تعديلات على حبكة الرواية ومصائر شخصياتها، (غالباً بموافقة مؤلفها دان براون،) تصب جميعها في مصلحة الفيلم، فضلاً عن تمتع الفيلم بصور بصرية عجيبة عبر تجسيده لجحيم دانتي في ذهن روبرت لانغدون المضطرب نتيجة فقدان الذاكرة لترى واقعاً كابوسياً. أبدع رون هوارد في خلق فيلم يتابعه المشاهد لاهث الأنفاس، مشدوداً إلى مقعده. أبرز تلك التغييرات في السيناريو هو عدم انقلاب الطبيبة الإنكليزية سيينا بروكس مرة ثانية من الشر إلى الخير في نهاية الفيلم، لأن ذلك أمرٌ لا يحتمله فيلم في ساعتين، بحيث سيبدو مقحماً ومصطنعاً، إن لم يثر السخرية. هنا، لا بد من الإشارة إلى أن إسهام كاتب السيناريو ديفيد كويب يستحق الثناء، لأن الرواية - بالرغم من غناها الثقافي - حافلة بتفاصيل مسهبة حول متاحف وآثار فلورنس وفينيسيا بحيث تضعف جرعة التشويق. أما السيناريو، فكان من الطبيعي أن يتخلص من هذه الاستعراضات الثقافية التي تصلح للقراءة، وليس للمشاهدة.

    لعب توم هانكس شخصية روبرت لانغدون كعادته في إجادة التقمص، لكن الشخصية هذه المرة فاقدة الذاكرة، بحيث تماشت مع تقدم السن عن الفيلم الأول عشرة سنوات. أجاد هانكس خاصة في ردود فعله إزاء ومضات الكوابيس حول خطفه وتخديره بحقنة، ومشاهد الأموات والمشوهين وهي تجوب الشوارع.  نجحت فيليسيتي جونز أيضاً (بعد أودري توتو وإيليت زورر في الفيلمين السابقين،) في تجسيد شخصية الطبيبة سيينا بروكس، حبيبة وشريكة العالم المهووس في نظريته بوجوب القضاء على نصف البشرية ليعيش نصفها الآخر، وإن كان التغيير من شخصية إيطالية إلى بريطانية غريباً وغير مبرر. كمن سر نجاح فيليسيتي جونز في حسن إقناعها ببراءتها ليكون انكشاف تآمرها صدمة مفاجئة للمشاهد. بدوره، تألق النجم الهندي عمران خان في دور قائد المؤسسة الأمنية الغامض، وكذلك سيدزي بابيت كنودسن في دور إليزابيث مديرة منظمة الصحة الدولية، ومثلهما تألق بن فوستر في دور العالم المهووس بإنقاذ البشرية عبر إفناء نصفها بفيروس قاتل، وعمر سي في دور ضابط البوليس الأسود الفاسد.

    صور الفيلم سلفاتوري توتينو في فلورنس وفينيسيا، لكن معظم التصوير جرى في هنغاريا توفيراً لكلفة الإنتاج، ومدير التصوير هو نفسه الذي صور كلاً من "شيفرة دافنشي" و"ملائكة وشياطين". كذلك قام بالمونتاج كل من دانيال ب. هانلي، (الذي سبق وعمل في الفيلمين المذكورين،) مع توم إلكينز. أما الموسيقا، فألفها هانز زيمر، وهو المؤلف الموسيقي اللامع لفيلمي "شيفرة دافنشي" و"ملائكة وشياطين" أيضاً.  رغم هذا التشابه القريب من التطابق في طواقم الأفلام الثلاثة ، فإن فيلم "الجحيم" (2016) يختلف عن سابقيه اللذين يركزان على حل الأحاجي وفك شيفرات دينية قديمة، إذ أن الثالث يركز على صراع المبادئ والمعتقدات، على وباء عالمي يهدد مصير البشرية، وعلى فقدان ذاكرة بطل الفيلم واستعادتها الدريجية ليكشف عن تفاصيل لغز مركب بدقة وعناية كلوحة الموزاييك.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية