د. رياض عصمت
سجل فيلم الخيال العلمي "الدكتور سترينج" (2016) لشركة "مارفل" تفوقاً استثنائياً، وذلك لجمعه ما بين الإنتاج التجاري الضخم والمبهر بصرياً، وبين المضمون الروحاني ذي الأبعاد الفلسفية. لا شك أن جزءاً لا يستهان به من نجاح الفيلم جاء بفضل إسناد دور البطولة إلى الممثل البريطاني اللامع بنيديكت كامبرباتش، الذي اشتهر بأداء شخصية شرلوك هولمز في سلسلة أفلام تلفزيونية تمتعت بطابع فني مجدد.
يروي الفيلم قصة الالدكتور سترينج، جراح الأعصاب البارع والمغرور، الذي يعيش حياة من البذخ. لكنه يصاب ذات يوم بحادثة سيارة رهيبة يفقد بعدها السيطرة تماماً على يديه، ويعاني من ارتعاش دائم. لا يجد الدكتور سترينج سبيلاً سوى التعلق بأمل وحيد ناجم عن شخص مشلول عاد ليمشي بعد رحلة علاج روحاني قام بها إلى آسيا. ينصحه ذلك الشخص أن يذهب إلى "كامارتاج" في نيبال، فيذهب إلى هناك باحثاً عن شفاء يديه المرتعشتين. يتعرض لهجوم من لصوص، فينقذه مقاتل أسود، ويصطحبه لمقابلة الكاهنة الكبرى. يكتشف الدكتور سترينج في معبدها عالماً عجيباً من الطاقات الروحانية الكامنة لديه، والتي عليه أن يدربها لينتقل عبر الزمان والمكان،ليمتلك أسلحة من نور، ليتعلم التواضع والإيمان بنفسه، ولينخرط في الحرب ضد /سيد الظلام/ الذي انشق عن الكاهنة مع عصبة شريرة من أعوانه سارقاً صفحات من كتاب سري مقدس. يخوض الدكتور سترينج مغامرة مزدوجة الأبعاد، فتارة يجابه بشجاعة غزو /سيد الظلام/ لمقر الكاهنة القديمة، وتارةً يهرب على الرمق الأخير إلى المستشفى الذي كان يعمل فيه مع حبيبته الطبيبة لتنقذه من الموت وتساعده في الإجهاز على أحد مطارديه الأشرار. يتمكن /سيد الظلام/ من قتل الكاهنة الكبرى، ويجمِّد البشر في الشوارع، ويكاد أن يربح المعركة ضد سترينج ومن تبقى من مقاتلي المعبد. يتفتق ذهن الدكتور سترينج، الذي برع في التحكم بالزمن، عن خطة يقوم بموجبها بتكرار جملة إلى ما لا نهاية مقايضاً القوة الأعلى على إيقاف الشرير وأعوانه عند حدهم مقابل توقفه عن ذلك التكرار عبر إعادة الزمن إلى الوراء كشريط تسجيل. تستجيب القوة الأعلى، ويتفتت الأشرار جميعاً كتماثيل من رمل تذروها الريح. هكذا، يطهر الدكتور سترينج بصحبة صديقه المقاتل السود وأمين المكتبة الآسيوي العالم من الأشرار، لتوحي نهاية الفيلم بجزء آخر قادم مستلهم من سلسلة القصص المصورة الرائجة "الدكتور سترينج"، يضم أبطال فيلم "ثور"، الذي سبق أن أنتجته شركة "مارفل."
يكمن تفوق فيلم "الدكتور سترينج" (2016) فيما يتضمنه من معانٍ وأفكار. صحيح أنه فيلم من أفلام الخيال العلمي، لكنه أوحى أيضاً بعمق فلسفي لا يستهان به، فهو فيلم احتفى بالروحانيات، واتسم بمسحة من الصوفية. يبحث الدكتور سترينج مثلما بحث أوديب من قبل في الأسطورة الإغريقية عمن يعيد إليه قدراته الفذة كجراح أعصاب ناجح، بل طبيب مغرور بنجاحه لدرجة تهميش الآخرين والعيش بتعالٍ وبذخ. تعيد حادثة سيارة مريعة واحدة ذلك الإنسان الذي حاول تجاوز حدود بيديه اللتين تمسكان مبضع الجراحة وتقومان بمعجزة إحياء شخص ميت برصاصة عالقة في دماغه. يصبح هذا الطبيب ذو القدرات الخارقة خرقة بالية، ويفقده القدرة على السيطرة على يديه، ليثبت القدر أن الإنسان مهما بلغ من العلو يظل محكوماً بحيث أن حادثة سيارة تقعده عاجزاً على هامش المجتمع. لكن إحباط الدكتور سترينج، الذي يصل إلى درجة تضطر حبيبته لهجره، لا يصل به إلى حد اليأس. إنه لا يستسلم لمأساة ضعفه، فيقرر البحث عن حل يتجاوز حدود المعروف والمألوف علمياً. هنا، تبدأ النقلة تدريجياً من عالم الواقع إلى عالم الفانتازيا عندما يهدي الرجل المشلول الذي استعاد القدرة على المشي الدكتور سترينج إلى الذهاب إلى نيبال. تمنح الرحلة الدكتور سترينج مفتاح ملكوت لم يكن يخطر له على بال هو ملكوت الروح. تعلمه الكاهنة الكبرى قدرة التحكم بالخيال عبر تدريب قاس وصبر جلود، فإذا بالطبيب العاجز عن التحكم بيديه يتحول إلى مقاتل فذ يجمع ما بين الذكاء والقوة، ويتصدى لمواجهة /سيد الظلام/ وأعوانه من قوى الشر الذين يغزون المعبد ويتمكنون بعد صراع رهيب من قتل كاهنته الكبرى، مهددين مدناً بحالها بالفناء عبر تجميد سكانها كتماثيل من شمع. يستطيع الدكتور سترينج تجاوز الحدود التقليدية المألوفة، فيتوصل إلى قدرة تفوق جميع أقرانه من سدنة المعبد بالعقل قبل العضلات، ويتمكن من هزيمة /سيد الظلام/ وأعوانه والقضاء عليهم نهائياً. يثبت الفيلم قوة الإيمان، قوة الروح، قوة الإرادة وقوة الإلهام.
اختار المخرج سكوت ديريكسون أن يشارك في كتابة السيناريو ثلاثة كتاب آخرين هم: جون سبيهيتس، سي. روبرت كارجيل، وستيف ديتكو، فأسهم بتوحيد المضمون والشكل. كما اختار المخرج طاقماً تقنياً على غاية من التمرس في هذا الطراز من الأفلام الحافلة بالخدع البصرية والصور المولدة كومبيوترياً. أول هؤلاء مدير التصوير بن ديفيس، والمونتيرين سابرينا بليسكو ووايت سميث. أما الموسيقا التصويرية، فعهد بتأليفها إلى مايكل غياشينو. أثبت المخرج سكوت ديريكسون في ثالث أفلامه الكبيرة، إذن، أنه من طراز المخرجين الكبار، فحقق فيلماً تجاوز نجاح شباك التذاكر، لينال تقديراً عالياً من النقاد أيضاً، ونال تقييماً قدره 8 درجات. لا شك أن براعة المخرج الجديرة بالثناء تجلت أيضاً عبر توزيعه للأدوار على نخبة من الممثلين والممثلات الأكفاء، يتقدمهم بنيدكت كامبرباتش، النجم الصاعد بقوة بعد أدائه على المسرح البريطاني بطولة مسرحية شكسبير "هاملت" فضلاً عن عدد من الأدوار السينمائية الجادة. يكاد المرء لا يتخيل الدكتور سترينج إلا بصورة كامبرباتش، إذ جمع ما بين الثقة المفرطة بالنفس والضعف الإنساني، ما بين الصلافة الرصينة وحس المرح، وما بين التصميم والتردد. مقابله، اختار المخرج أن يسند دور الكاهنة الكبرى، (ويجسدها في القصص المصورة رجل مسن،) إلى ممثلة قديرة اختار أن تكون تيلدا سوينتون، فأبدعت في رسم شخصية ذات طابع آسيوي غامض، وأضفت عليها طابعاً صوفياً ساحراً. بالمقابل، أسند دور الطبيبة حبيبة الدكتور سترينج إلى الممثلة الموهوبة راشيل ماك آدامز، ودور المحارب الأسود إلى الممثل القدير تشويتلي إيجيوفور، (بطل فيلم "12 سنة من العبودية"،) في حين اختار لدور /سيد الظلام/ ممثلاً قديراً هو مادس ميكلسن، (الذي عرف بدور الشرير في فيلم جيمس بوند "كازينو رويال".) فيلم "الدكتور سترينج" (2016) باكورة أعمال الاستوديو الذي أنشأته شركة "مارفل" عقب النجاحات التجارية الكبيرة التي حققتها عدة سلاسل من الأفلام سابقاً، ومنها "المنتقمون" و"ثور" و"كابتن أميركا". "الدكتور سترينج" – كما هو واضح من مشهد إضافي في نهاية الفيلم – سيتبعه جزء ثانٍ يشارك فيه أبطال فيلم "ثور"، حيث سيتصدى البطل الجديد مرة أخرى لإنقاذ البشرية من خطر هيمنة الشر على مصير الإنسان.