أعمل درامية تتلمس الواقع .. وأخرى تعيش غربتها


أعمل درامية تتلمس الواقع .. وأخرى تعيش غربتها

فؤاد مسعد :

بعد وصول شهر رمضان إلى أيامه الأخيرة ، ومع تراكم عدد حلقات كل مسلسل تبدأ قطع (البازل) بالتجمع لتشكل لوحة بانورامية حول ما قُدم من أعمال درامية على الشاشات العربية خلال الموسم الدرامي الحالي ، لتكشف واقع الحال وتضع نقاط علام ومفاصل أساسية تُظهر أهمية هذا أو سذاجة ذاك من المسلسلات التي نافست جميعها لنيل رضا المشاهد العربي ، ويبدو أن الأحكام قد أُطلقت هنا وهناك ، وإن كان من المجحف بث الآراء النقدية إلا بعد انتهاء عرض المسلسلات بشكل كامل ولكن الخطوط العامة وآلية الأداء وسوية الصورة والمضمون .

. كلها عناصر ظهرت للعيان ورسمت حدود ومكانة كل عمل بشكل أو بآخر . ومن الملاحظات التي ظهرت بشكل جلي على المشهد الدرامي طغيان (البزنس) إلا في حالات قليلة ، فقد تجاوز الكثير من المنتجين حالة الهاجس الابداعي لتقديم المقولة والرسالة الفنية والفكرية ضمن إطار بصري متميز ، حتى أنهم تجاوزوا فكرة (الجمهور عايز كده) ووصلوا إلى قناعة أن المهم الرضوخ لما يتطلبه (البزنس) لأنه الأهم ، وظهر ذلك بشكل جلي في أعمال جاءت بعيدة كل البعد عن الواقع ، فعاشت الغربة بينها وبين الجمهور في كل شيء ابتداء بالنص وليس انتهاء بالإخراج والتمثيل وأماكن التصوير . أمام هذا الواقع لا بد من الإشارة إلى أعمال استطاعت أن تحفر لنفسها مكاناً متقدماً عند الجمهور في وقت تعاني فيه الدراما السورية من مجموعة صعوبات لم تعد خافية على أحد ، من صعوبة في التمويل والتوزيع وانحسار أماكن التصوير وسفر بعض الفنانين والفنيين ..

وبالتالي وسط هذا الواقع المؤلم استطاعت الدراما السورية أن تكون حاضرة بقوة من خلال مسلسلات هامة ولكنها بقيت قاصرة عن الوصول إلى مرحلة تقديم المسلسل الفيصل الذي يشكل حالة فريدة ، وهو الأمر الذي غاب عن الدراما السورية لسنوات عديدة حتى قبل الأزمة ، ما يشي بأهمية التنبه لهذه الحالة والسعي لإنجاز أعمال يمكن أن تعتبر فيصلاً حقيقياً في عملية الإنتاج وتكون نقطة علام . وبالعودة إلى ما أنتج هذا العام ، ومع غياب العمل الكوميدي اللافت واختفاء المسلسل التاريخي خلال السنوات الأخيرة ، تبقى الساحة مشرّعة لمسلسلات البيئة ، والمسلسلات الاجتماعية التي انقسمت بين أعمال ابتعدت عن الأزمة وأخرى لامستها أو حاولت الولوج إلى عمقها بشكل أو بآخر ، وفي نظرة سريعة على باقة من أهم ما قُدم من مسلسلات نجد أن مسلسل (حرائر) للمخرج باسل الخطيب وإنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي قد استطاع من خلال لغته البصرية والمفاهيم والطروحات التي تناولها في نصه تقديم اقتراح مختلف عن الشام بما تزخر به من عمق وأصالة وحضارة وثقافة مقدما ًالمرأة صنواً للرجل مشيراً بكثير من الجرأة إلى مراحل تاريخية هامة كان لها دورها في رسم خرائط المنطقة موضحاً المؤامرات التي حيكت لهذه المنطقة ومدى الوعي الشعبي والسعي إلى الوقوف في وجه الأطماع الاستعمارية ، ذلك كله ضمن قالب حكائي مشوّق يمزج ما بين التاريخي والحكائي والبيئي بآن واحد . وقد أتى مسلسل (حرائر) ليقدم رؤيا فكرية وبصرية مختلفة عما اعتادت الشاشات العربية على تقديمه واستجراره حول الشام في أعمال يغلب عليها الطابع الفلكلوري والمفاهيم التي تتلاءم ورؤية المحطات العارضة عبر اشباع غرور (الذكورة) لدى المتلقي فدور المرأة فيها يقتصر على شخصيات الأم والحماة والضرة ودائماً هن في تنافس مستمر لخدمة وإرضاء الرجل ، كما أن هذه الأعمال كثيراً ما تزخم بالميلودراما والاستجرار العاطفي للمشاهد ، وقصصها تتمحور حول حكايات تقترب من حكايات الجدات التي يستسيغها المشاهد ، واليوم هناك العديد من الأمثلة التي تندرج ضمن هذا الإطار وأنجز عنها أكثر من جزأ ، ولكن موضة الشامي يبدو أنها انسحبت على لبنان وبات هناك أعمال تقدم بيئة لبنانية كما هو الحال في الأعمال البيئة الشامية ، تقدم الحتوتة ضمن قالب بيئي فلكلوري ساحر بما يعج به من تفاصيل تجهد الكاميرا إلى التقاطها بعناية ، ففي مسلسل (بنت الشهبندر) إخراج سيف الدين سبيعي تم تقديم حكاية جاذبة على خلفية تاريخية للمنطقة في زمن معين بكل ما يحمل من تحولات وتناقضات ، هي شخصيات تتصارع على الحب والسلطة والنفوذ .

عديدة هي الأعمال التي اتخذت من الأزمة والحرب الدائرة زاداً لها ، منها ما اكتفى بإظهار تداعياتها وانعكاساتها على الناس البسطاء ، ومنها ما حاول الولوج إلى أبعد من ذلك ، ومن تلك الأعمال (بانتظار الياسمين) إخراج سمير حسين الذي كان مسرح أحداثه الرئيسي حديقة عامة لجأ إليه نازحون من المناطق الساخنة ، هم مختلفو المشارب والاتجاهات ، اجتمعوا كلهم تحت سقف السماء محاولين إيجاد مكان آمن يحميهم من هول ما عاشوا ، إلا أن هناك دائماً متسلقين ومنفاقين يحاولون التعربش على آلام الناس ، وبالمقابل هناك أخياراً يحبون البلد ويخلصون لها بقلب مفعم بالحب والأمل . أما مسلسل (غداً نلتقي) إخراج رامي حنا فيتناول حياة مجموعة سوريين من المهمشين الذين يعيشون في لبنان وسط الظروف الحالية ، هم مختلفو الاتجاهات ولكن جمع فيما بينهم الأسى والألم ، لكل منهم حكايته الخاصة ، تغوص كاميرا المخرج إلى دواخل كل حالة بشفافية وألم ، إنها شخصيات لا تطال السماء ولا الأرض فلكل منها حلمه الكبير ولكن دائماً هناك حالة انكسار وعجز لتحقيق هذا الحلم ، لكل منها عوالمها الخاصة وحياتها ومشكلاتها ، وبالتالي أدوات تعبيرها التي تترجم حالتها وتعكس تفاعلها مع الواقع الجديد . هذا الواقع الذي نقله العمل حاملاً بين حناياه الكثير من القسوة المُغلفة بإطار شديد الرومانسية ، هي حكايات مستمرة تعتقد أنه ليس لها نهايات ، تتقاطع فيما بينها لأشخاص يبحثون عن الأمان وإن كان ذلك عبر الهجرة مرة أخرى .







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية