(حرائر) .. هؤلاء هن النساء في سورية


(حرائر) .. هؤلاء هن النساء في سورية

فؤاد مسعد

خرج  مسلسل (حرائر) إخراج باسل الخطيب وتأليف عنود خالد ، من كونه حكاية يمكن أن يُصاغ منها نص درامي تلفزيونيً يتم إنتاجه وتسويقه شأنه في ذلك شأن أي عمل درامي آخر وأن يُكتب عنه بالنقد هنا وهناك ، أو أنه عمل يؤرخ لزمان ومكان معينين وشخصيات بعينها ، ليظهر على أنه يندرج ضمن إطار مشروع ثقافي إبداعي وحضاري واضح المعالم يحاول المخرج باسل الخطيب تناول مفردته في كل مرة برؤية مختلفة وزاوية جديدة ، ليقف مدافعاً عن الكلمة مدعّماً برؤى فكرية وبصرية ، تمتد إلى أبعد من مسلسل أو فيلم سينمائي ، تتجسد في مفهوم إنساني ومجتمعي وفكري وثقافي لدور المرأة ضمن الواقع السوري ، الدور الذي كثير من المسلسلات والأعمال التي أنتجت وصورت وعرضت كان جل هدفها نزع هذا المفهوم من سياقه التاريخي والحضاري بقصد أو عن غير قصد ، فجاءت أعمال الخطيب لتكون ذلك الصوت الصارخ ، إن كان في السينما عبر ثلاثية (المرأة والحرب) في الأفلام الثلاثة (مريم) و (الأم) وأخيراً (سوريون) ، أو عبر الشاشة الصغيرة المكان الأكثر شعبية والبعيد عن النخبوية ليحط رحاله ويقدم رؤيته عن المرأة ، هي الرؤيا التي تقاطعت مع هاجس الكاتبة ليمسي المشروع أكبر من فرد فيكون مشروعاً حضارياً في ركائزه وأركانه ، يحمل قيمته الفريدة من خلال ما يطرح من رؤى وتناوله لحياة أدباء ومبدعين سوريين وصناع قرار وطنيين .
  المسلسل الذي تصدت لإنتاجه المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني يتناول قصة نضال امرأة وسط عالم ذكوري يحتفي بالرجل ويمجد عادات بالية وتقاليد تكرّس التبعية بما فيها التبعية للمحتل العثماني (وليّ الأمر آنذاك) ، هو صراع بين قيم ومفاهيم ، بين الجهل و النور ، وبالتالي هو صراع حياة .. هكذا قدم صنّاع مسلسل (حرائر) عملهم الذي يغوص إلى عمق العوالم الإنسانية لشخصيات من لحم ودم بعضها افتراضي والبعض الآخر حقيقي ، عاشت في مطلع القرن وتطلعت إلى الخلاص ، وبعد كفاح وصبر استطاعت أن تنهض كالحصان الأصيل ، وتقف في وجه المؤامرات التي تُحاك ضد البلد .
   تنطلق الأحداث من عام 1915 لنتعرف على بسيمة (سلاف فواخرجي) التي يعيش زوجها سكرات الموت ، وقبيل وفاته يبيع لها المنزل ليصبح باسمها الأمر الذي يدفع بشقيق زوجها صبحي (أيمن زيدان) لأن يستشيط غضباً وهو الساعي للزواج من أرملة أخيه ، وعلى التوازي نتعرف على نازك العابد (لمى الحكيم) أول من رفعت الغطاء عن الوجه وحاربت العادات العثمانية ، وماري العجي (حلا رجب) صاحبة مجلة (العروس) التي استمرت في الكتابة حتى بعد أن أغلق لها العثماني المجلة ، وشكّلت كل من نازك وماري بصيص النور وسط الظلمة ، كانتا تناديان بمفاهيم إنسانية واجتماعية محاولتين توعية المجتمع بأن المرأة هي صنو للرجل ومعين له ، داعيتين مع آخرين إلى الوقوف في وجه المحتل العثماني جهاراً ، حتى أن لهما مساهماتهما في مساعدة عائلات الشهداء من خلال جمعية حاولتا فيها جمع أكبر قدر من النساء ، أما الأرملة بسيمة التي تحدّت نظرة المجتمع للمرأة امتزجت في داخلها الشفافية مع القوة ، فبقدر ما نراها تفيض أنوثة ودفئاً بقدر ما نراها شرسة كاللبوة خاصة عندما يتعلق الأمر بابنتيها ، وما أمدها بشيء من القوة الدور الذي لعبته في حياتها ماري الجمي ، وشكّل استقلالها المادي وإصرارها على العمل نقطة تحول في حياتها دعّم موقفها في أن تكون صاحبة قرار بعيداً عن أية وصاية .
  وعلى الضفة الأخرى نتابع الوجه الثاني من المعادلة ، إنهم صنّاع الظلام ، جمال باشا السفاح وما فعله بالشام من جهة والنظرة الذكورية السائدة التي ترى بالمرأة تابعاً أعمى وظيفته الرضوخ لما يريد لأوامر الرجل .. وبشكل عام حرص المسلسل على تقديم أكثر من نموذج عن المرأة ، فهناك المرأة الفاعلة في المجتمع والأخرى التي تسعى إلى ذلك ، وهناك المترددة الخائفة من العادات والتقاليد ، والمرأة المستكينة للظلم والأخرى الجاهلة غير المتعلمة ، وعلى اختلاف نسبهم إلا أنهن نماذج موجودات في المجتمع حتى الآن ، مما يشي أن العمل الذي يتحدث عن مرحلة تاريخية معينة مرت في سورية إنما هو يحكي عنها وعينه على (الآن) بشكل أو بآخر .
   عديدة هي الخطوط التي حفل بها العمل وصبت ضمن إطار محوره العام ، فالشباب السوري الذي زج به العثماني في حرب ليست حربه ، وقضايا الوطن ، إظهار قسوة الحرب ودور العثماني في تعميم الجهل والتبعية ، شهداء الوطن الذين أعدمهم جمال باشا في السادس من أيار ، التاجر النسونجي المتسلط والمُستغل ، المُتلون كالحرباء الذي يشبه اليوم تجار الأزمة ، فهو تارة يقف مع العثماني لأنه ولي نعمته (كما يراه) ، وتارة يكون مع المناضلين ويوظف نضال ابنه لمصلحته ليظهر بمظهر والد المناضل أمام أعضاء الحكومة آنذاك ، وتُضاف إلى تلك الحكايات قصص أخرى هي فرعية في شكلها ولكنها تحمل مقولاتها التي تنسجم وتتوحد مع المقولة العامة للعمل ، فحكاية زبيدة (ميسون أبو أسعد) والظلم الذي وقع عليها وعودتها إلى الشام وسعيها لأن تكون امرأة فاعلة في المجتمع ، وسعيد (مصطفى الخاني) الشاب السوري الباحث عن الحقيقة والمعرفة الذي وقف في وجه الظلم .. إذاً هناك العديد من الحكايات التي حملت تشويقها وإثارتها كما حملت فكرها ومضمونها الفكري الموظف لخدمة رسالة العمل ككل .
  ضمن هذا المنحى من الحكاية كان هناك حرص من الكاتبة والمخرج على إعطاء الشام حقها حتى من خلال التفاصيل اليومية التي غالباً ما تظهر بشكلها الفلكلوري في أغلب الأعمال الأخرى ، إلا أنها ظهرت هنا موظّفة لإظهار الهوية الحقيقية للشام وبكل ما فيها من غنى وتنوع ، وكان للعمل موقفه الواضح من أحداث تاريخية هامة مرت بعد انتهاء الاحتلال العثماني تجلت في فترة الأمير فيصل ومؤامرة الغرب على سورية لشرعنة الانتداب الفرنسي عليها وموقف الوطنيين من ذلك كله ، وما قالته كل من ماري عجمي ونازك العابد عبر قراءتهما للمستقبل بناء على واقع تلك المرحلة التي كانت تعيش مخاضاً عسيراً نتج عنه استماتة السوريين في الدفاع عن أرضهم بكل السبل ورؤيتهم الناضجة لما كان يخبئه الآخرون لهم وللمنطقة ، فعلى سبيل المثال جاء على لسان شخصية نازك العابد عبارة (العربي والأجنبي يتآمر على بلدنا) .
   هذه المقولات والرؤى التي أُشبِع بها المسلسل غلّفها المخرج بإطار بصري شفاف يحمل جماليته التي تعبّر أصدق تعبير عما أراد الوصول إليه ، إن كان عبر تبنيه وفهمه للنص وترجمته إلى صورة ناطقة نابضة بما تتوهج به الروح ، أو عبر الاعتناء بالتقاط أدق التفاصيل التي يرى البعض أنها مجرد مكمل للصورة ليس إلا ، في حين كان لها دورها ووظفتها وموقعها في العمل ، فالإضاءة واللون لهما دورهما في تكريس حالة معينة والسعي إلى نقلها بأكبر تأثير ممكن إلى المتلقي ، شأنهما شأن الديكور والملابس والاكسسوار ، بالإضافة إلى الموسيقا ودلالة استخدام الآلات الشرقية فيها ، والتركيز على الوجوه لالتقاط تفاصيل الانفعال والغوص في العيون التي تكاد تنطق لدى ممثلين قدمهم المخرج بأبهى صورة ، لكل مكانه صغر أو كبر حجم دوره ، بهذه القناعة الراسخة قدم الممثلون شخصياتهم ضمن إطار مُتقن ومُقنع من الأداء يجمع فيما بينهم هارموني عالي المستوى ، حيث برزت قدرة الفنانة سلاف فواخرجي على إيصال العوالم الداخلية للشخصية والتعبير عما عاشته من صراعات من خلال كل خلجة من خلجاتها ودائماً كان هناك فيض من الإنسانية والإحساس المرهف الذي يضفي على الأداء ميزته الخاصة فجاءت (بسيمة) مفعمة بالخير والقوة والحياة ، أما الفنان أيمن زيدان فترجم عبر شخصيته ما اكتنز به من حالة معرفية لدور يحمل المتناقضات بين الروح المرحة من جهة والشخصية النزقة لتاجر بخيل يحمل ما يحمل من صفات سلبية ، وبالتالي استطاع تقديم شخصية سلبية ولكنها غير منفرة ، فأنسن تصرفاتها لتأتي أكثر اقناعاً وجذباً . وقد استطاعت الفنانة ميسون أبو أسعد أن تقدم تلوناً في الأداء وفقاً للمراحل الانتقالية التي عاشتها في حياتها ، فميّزت حتى في ردود الفعل بين زبيدة الظالمة وزبيدة المرأة الدمشقية الحكيمة التي أرادت تحمل مسؤوليتها بوعي وثقة .
    مفاجأة المسلسل كانت عبر الفنانتين حلا رجب ولمى الحكيم ، وعلى الرغم من أن لكل منهما أدوارها الهامة التي سبق وقدمتاها عبر شخصيات مختلفة لها خصوصيتها وميزاتها ، إلا أن تصديهما لشخصيتين معروفتين وبهذا الثقل ويقع على عاتقهما إظهار الدور التنويري للمرأة وسط مجتمع كان يرزح تحت نير الجهل العثماني ، كان فيه الكثير من التحدي ، وقد استطاعت الفنانة حلا رجب تقديم أدق التفاصيل بإتقان حول شخصية ماري العجمي وأن تحمل كلمتها وتقدمها بقوة المرأة القادرة على مقارعة الرجل ، أما الفنانة لمى الحكيم التي قدمت شخصية نازك العابد فعبّرت عنها أصدق تعبير وأعطتها من روحها الكثير معبرة عنها باقتدار ، أما الفنان مصطفى الخاني فكان دور سعيد من أجمل أدواره ربما لما حمل من فكر ايجابي ، فعبر عنه عاكساً ما يحمل من قيم ومفاهيم مظهراً النقلة الهامة في حياته متحولاً إلى شاب يحمل فكراً تنويرياً على الرغم من كل الجهل الذي كان يحيط به .
  مما لا شك فيه أن مسلسل (حرائر) استطاع تقديم الشام من وجهة نظر مختلفة تحاول البحث وتقديم التوثيق التاريخي لشخصيات بعينها كان لها أثرها الفاعل في المجتمع من نساء ورجال ، وبذلك يطرح رؤية مغايرة لغالبية الأعمال الدرامية التي جعلت من البيئة الشامية تجارة رائجة لها على الصعيد الدرامي مقدمة إياها وفق أهواء ومتطلبات المُعلن والمنتج ، أما هنا فالحالة جاءت بعيدة كل البعد عن هذا السياق طارحة اقتراحاً مختلفاً يجنح نحو البحث والتوثيق ونقل نبض المرحلة ، مع التشديد على أهمية الدور الفاعل للمرأة في ذل







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية