(بانتظار الياسمين) الوجع السوري .. من لحم ودم


(بانتظار الياسمين) الوجع السوري .. من لحم ودم

فؤاد مسعد

الولوج إلى عمق العلاقات الإنسانية وسط استعار نيران الأزمة واشتداد تداعياتها على الناس البسطاء والمهمشين ، والتقاط تفاصيل الحياة المنسية لأشخاص يحاولون التشبث بأي أمل ، فيهربون من المناطق الساخنة محاولين الامساك بطوق النجاة وقلوبهم مُشبعة بالأمل ، حتى أن أحدهم يقول (قريباً تعود الأمور إلى نصابها ونعود إلى منزلنا الذي هجرناه خوفاً من الموت) .. ولكن الواقع الأليم يفرض مفرداته اليومية القاسية عليهم ، بعضهم حمل ما استطاع من حاجيات بسيطة والبعض الآخر خرج خالي الوفاض ، المهم البقاء على قيد الحياة ، توجهوا إلى الحديقة لتكون مجتمعهم الجديد بكل ما حفلت به من عائلات متنوعة المشارب والاتجاهات والمستويات ، في المجتمع الجديد الكل سواسية ، كلهم مهجّرون يعيشون ألم الانتظار والأمل بغدٍ قد يحمل المفاجآت ، ولكن دائماً هناك انكسار وأمل وتحدي .. وتستمر الحياة .

   هذه حال مسلسل (بانتظار الياسمين) إخراج سمير حسين وتأليف أسامة كوكش ، الذي انتصر لأشخاص وجدوا أنفسهم فجأة بلا مأوى أو معيل ، هو عمل مليء بالحب على الرغم من الاخفاق المتكرر والشر المقيم في نفوس البعض ، إنه صراع قيمي معرفي يتجلى بأوجهٍ متعددة ، وقوده الناس البسطاء والفقراء بما حملوا من إرادة وصبر ، جمع المسلسل بين حناياه حكايات وأحداث كان محورها الأهم مجموعة من العائلات التي باتت تقطن الحديقة أو تزورها ، ليتحول مكان النزهة والراحة إلى مكان آخر يعج بأشخاص يبحثون عما يجعلهم مستمرين في الحياة ، كل منهم يحمل على كاهله همه الثقيل كالجبل . هي رؤى وملامح أولية حرص صناع العمل على ابرازها من خلال أحداث زاد من حدتها وألمها شخصية (أبو الشوق) الذي جسد الدور الأكثر شراً والشيطان الذي لا ينام باحثاً عن ضحيته بين الضحايا .
   (قلبي عم يرجف يا أم سليم) .. بهذه العبارة النابعة من صوت مخنوق خاطب أبو سليم (الفنان غسان مسعود) زوجته (الفنانة صباح الجزائري) في الحلقة الثانية من المسلسل معبّراً عن ألمه إثر خروجه من منزله ولجوئه إلى الحديقة ، هذا المكان الذي جمع الكثير من الأشخاص الباحثين عن الأمان ، حتى أن أول سؤال كان يسأله كل منهم للناطور لدى دخوله باب الحديقة ( هل هنا أمان ؟ ) هو البحث عن الأقل والأبسط ، بهذه الصورة قدم صنّاع العمل شخصيات من لحم ودم تعيش واقعها وتحاول التأقلم معه بأبسط الخسائر الممكنة ، فأبا سليم المثقف وصاحب معمل الصابون لم ييأس ، وإنما عمل وزوجته بأقل الأعمال قيمة من وجه نظر المجتمع (دون خجل) سعياً للحفاظ على الأسرة التي تعاني كما الآخرين ، هو الانسان الهادئ الرزين الذي قدمه العمل بصورة الرجل القارئ والمثقف الذي غالباً ما ينطق بالحكم المعبرّة عن المرحلة ، فقد حمّله الكاتب مهمة قول الأشياء بأسمائها وأن يكون لسان حال الناس ، ولكن بالمقابل نراه قد خسر مراراً وأضاع أكثر من مرة ما أستُؤمن عليه ، فدراجة بريمو لم يستطع الحفاظ عليها وسُرقت ، وهناك سحارة الموز التي سُرقت منه في السوق دون أن ينتبه ، والأطفال الذين أوصته بهم (شكران مرتجى) وذهبت ولكنه لم ينظر إليهم فقتل الأخ أخاه خطأ بطلق ناري ، كلها مواقف قد تشي في أحد أوجهها بحال المثقف ودوره في المجتمع الذي غالباً ما يتقوقع ضمن أسوار التنظير ، فالنيات الحسنة لا تكفي ، وجود مثقف يحمل داخله قدراً من النبل لا يكفي وهو في خضم المعركة ، وبالتالي هي خسائر متتالية يتعرض لها دون ان يكون قادراً على فعل شيء .. فهل هذه حال مثقفينا ؟..
  من الأمثلة الأخرى في الحديقة التي تكشف إيمان السوري بالحياة وعدم اليأس والتشبث بغدٍ أفضل نتابع مجموعة من الشخصيات ، منها لمى (الفنان سلاف فواخرجي) التي خرج زوجها من المنزل ليؤمن ربطة خبز فأخذه المسلحون وتم ذبحه بدم بارد ، تشردت مع ولديها وخُطفت ابنتها وعادت بعد أن دفعت الأم الثمن الصعب ، ولكن رغم كل ما عاشته من مآسٍ واستغلال إلا أنها كانت شخصية تشع بالنور والمحبة للآخرين ، وتفيض شفافية وسط عالمٍ مشبع بالقسوة ، هي شخصية أدتها بكل ما حفلت به من صراعات داخلية مُقدمة روحها ونبضها بحس عالٍ يعكس كل ما اعتلج في داخلها من هواجس وأحلام وذكريات ، وعلى النقيض من صفاء هذه الشخصية يقدم المسلسل شخصية أبو الشوق المحتال والقاتل الذي ركب موجة الأزمة وعمد إلى استغلالها حتى النهاية فكان الطفيلي الذي وجد في الأحداث الجارية مجالاً خصباً للعمل ، حيث استطاع الفنان أيمن رضا تجسيد صورة الشرير أحادي الجانب بأسلوب مستفز يخدم فكرة تقديم هذا النموذج ، فكانت دوراً صعباً بما امتلك من مفردات أداها بمصداقية عالية ، بينما سعى بريمو (الفنان أحمد الأحمد) إلى ترداد أغنية (وبحب الناس الرايقة يلي بتضحك على طول) محاولاً توزيع الأمل بين الناس ، فعلى الرغم من أنه إنسان شهم ولكنه مهزم من الداخل خائف ومغلوب على أمره وقد سعى الفنان أحمد الأحمد الذي أدى الشخصية بكثير من الدفء والحميمية إلى إظهار غناها الداخلي والتناقض الذي عاشته ليبرر ذلك القلق المرسوم في العينين . كما أدى (الفنان سامر اسماعيل) شخصية رضا الشاب طيب القلب الثري والذي فضّل أن يكون من سكان الحديقة ، يعيش الأزمة بتجلياتها ليمثّل الصوت الصارخ وصوت الضمير الحي . وإضافة لكل تلك الشخصيات برزت شخصية عازف البزق والمغني الكردي الذي كان من ضمن النسيج الواحد المقدم في العمل ، عزف بألم فالتم حوله الناس لأن وجعهم واحد .
   في ظروف مناخية ماطرة شديدة البرودة وأحياناً مُثلجة جرت عمليات تصوير المسلسل الذي سعى إلى مقاربة الواقع دون الوقوع في فخ التنظير المباشر ، كما جهد المخرج إلى تحقيق مشهدية بصرية مبتعداً فيها عن الفذلكة الإخراجية مفضلاً اللجوء إلى الكاميرا التي تنقل نبض الحدث وتلاحق الوجع راصدة التفاصيل الانسانية وناقلة نبض الإحساس عبر غوصها إلى عمق روح الشخصيات ، مراعية الإيقاع العام للعمل محافظة على التشويق الجاذب للمشاهد الذي يصعّد من حالة التوتر النابعة من رصد ما يجري على الأرض وتداعياته على الناس (تفجير هنا وخطف هناك ..) هي أحداث تحبس الأنفاس ولكنها لا تبتعد عن الواقع وإنما تولد من رحمه . وجاء تنوع القصص ليغني اللوحة البانورامية في محاولة لتوسيع العدسة ورؤية حالات أكثر تنوعاً مستمدة من الواقع ضمن نسيج متكامل يجمع الحكايات ضمن وحدة عضوية في نص تشابكت فيه القصص انطلاقاً من وحدة التواصل الوجداني ووحدة الألم والمعاناة ، كما حُمّل المسلسل مقولات على لسان الشخصيات ، معرجاً على العديد من مواطن الفساد اليوم وسط الأزمة التي نعيش ، لم يكن أولها بيع المعونات ولم يكن آخرها استغلال البعض لظروف الأزمة ورغبتهم في أن تستمر لأنها تغدق عليهم المال والنفوذ ، في حين نلمس تمسك الفقراء ببلدهم وهم أكثر المتضررين من الحرب ، ففي الحلقة السابعة نتابع نقاش بين أبناء أبو سليم يفضي إلى التأكيد على مفهوم الانتماء والهوية والتمسك بالوطن ، وبالتالي يطرح المسلسل أفكار ذات دلالة عميقة متجذرة في عمق كل مواطن سوري .
   كما سعى المسلسل إلى معالجة العديد من القضايا الاجتماعية الحارة ، ومنها الحب زمن الحرب ، الحب في عمر السبعين والنسيج الإنساني والاجتماعي الموحد في سورية ، الفتاة التي تعيش تداعيات الأزمة العائلية فتجد في الصداقة المحرمة مهرباً فتقبل بالمساكنة وترى السفر مع من تهوى إلى بيروت هو الحل ،  الأب الذي يحب صديقة ابنته ، المشكلات الزوجية والطلاق وأثره على الأولاد ، الخطف وبيع الأعضاء ، الاغتصاب والابتزاز ، القتل بدم بارد .. هي مشكلات تم الاضاءة عليها تارة بشكل قوي وتارة بشكل مرور عابر بقصد الإشارة إليها ، وكان للشباب حيزاً هاماً في العمل فتم إظهار المفارقات لدى الجيل الشباب وانعكاس الأزمة عليه ، هناك من كان جدياً ومؤمن بالبلد وسعى للتشبث بالحياة بأمل حقيقي وعمل بجد ، وهناك من عاش عبثية اللحظة بكل تجلياتها فالتجأ إلى أماكن اللهو .. وبالنتيجة تعكس هذه التناقضات التناقض الموجودة في المجتمع أصلاً .
  جاء المسلسل في حلقاته العشرين الأول متماسكاً بأحداثه مشدود بإيقاع متناسب مع ما يطرح من أفكار وقضايا ضمن إطار يحمل تشويقه وإثارته كما يحمل مكبراً يلتقط بعض الصور من الواقع ناقلاً خلالها صورة فنية تقدم ما يحدث بلغة وصورة مقنعة ، ولكن بعد محاولة ملاصقة الواقع التي اعتمدها المسلسل بدأ في النصف الثاني منه بالانجراف وراء الأكشن وما هو عاطفي وميلودرامي وصولاً إلى نكئ الجراح ونقل النبض المؤلم لحالة النواح والبكاء ، لمحاولة كسب جذب أكبر أو الاحتفاظ بحالة الجذب التي أحدثها في القسم الأول منه ولكنه وقع في مطب التشتت ضمن حكايات المسلسلات الاجتماعية الثانوية مبتعداً عن الهم الذي تصدى له بداية لصالح التطويل واستحداث قصص جديدة والاغراق في خطوط فرعية ، فانتقلنا من الحديقة التي شكلت محوراً أساسياً إلى محور شخصية لمى وقضيتها ، فمحور أبو الشوق ومنزله وقضيته وتشعباتها مع عصابته ، ثم الانتقال لأكثر من حلقة وكلها دموع ودموع على استحداث قضية اطلاق النار وقتل الأخ أخاه خطأً ، وبعدها أتت قضية منزل أم هشام الذي دمر واستشهد فيه ابنها ، وكأن هناك تحدِ يعيشه صناع العمل ليقولوا أننا نستطيع خلق الحكايات دائماً ليصبح عدد الحلقات بالشكل المطلوب ، ولكن أليس هناك محور هو العمود الفقري الأساسي وحوله مجموعة من المحاور الفرعية أم ينبغي على كل خط فرعي أن يصبح رئيسياً ؟..
  أتت الخاتمة على عجالتها لتترجم عنوان المسلسل حاملة البياض والنقاء ، إنه البياض الذي يشبه ياسمين دمشق ، والثلج الذي طغى على كل الألوان الأخرى ترافقه أغنية (يا طير سلم على سورية) في دلالة إلى الأمل بغدٍ يصنعه السوري بالحب والتعاضد والتكاتف ، هي المقولة التي أنهى فيها صناع العمل مسلسلهم لتكون بمثابة رسالة لعلها تصل بما حملته من صدق وإصرار على الحياة .







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية