آفاق سينمائية ـ فؤاد مسعد :
كثيراً ما يشوب الالتباس العلاقة التي تربط الإعلام بالفن ، فكل يفهمها على هواه ويقيّم الأمور وفقاً لمنظوره الضيق أو مصالحه الشخصية ، وغالباً ما يكون ميزان هذه العلاقة المد والجزر وقد تحكمها أحياناً مفاهيم مغلوطة قوامها أحد أمرين ينوسان بين الذم والمدح ، فهناك من يرى أن الإعلام مهمته لا تتعدى كونه مكرساً لامتداحه والتهليل والتصفيق له ولعمله الإبداعي الفذ ، بينما يرى البعض الآخر أن هناك عداء محكم بينهما لأن جل ما يقوم به الإعلام هو النيل مما ينجزه المبدع من أعمال !!.. إلا أن كلتا الحالتين تجافيان الواقع وتبقيان ضمن إطار الحالات الشاذة الخارجة عن السياق الطبيعي لهذه العلاقة ، لأنهما بعيدتان تماماً عن الفهم العميق لروحها ولما يحكمها من روابط وأسس وشروط .
ـ اتهامات جاهزة :
المصيبة أن هناك من يمتلك في جعبته اتهامات جاهزة يكيلها هنا وهناك ، وليس لديه أدنى رغبة لسماع الرأي الآخر مهما كان هذا الرأي دبلوماسياً وموضوعياً فيما يطرح من أفكار ، لا بل ستبقى في نظره أنت المُدان والمُتهم بمحاولة لوي ذراع الفن والفنانين ، وما تكتبه من نقد إما سيكون دون العمل الدرامي الإبداعي بأشواط أو سيظهر وكأنه يشوهه ويرخي بتأثيره السلبي على الإنتاج بشكل عام ، وهنا تنقلب الطاولة عليك فجأة لأنك تحاول تشويه سمعة الفن !.. وليس لأنك تنبّه إلى ضعف السوية هنا وتقرع ناقوس الخطر من استسهال هناك ، كما تجد من يتعامل مع ما تكتبه من باب أنك مجرد تابع لأحد ما ، قد لا تعرف من هو لأنه غير موجود أصلاً ولكنك تتبع له شئت أم أبيت ، أو أنك من (جماعته) أو تترجم أفكاره ولديك مصلحة معه ، إنه سيل من الاتهامات الجاهز للانفجار في وجهك ما أن تُفصح عن رأي أو تتوجه بالنقد لفكرة جاءت في عمل أحدهم لم يرق له ما قلت ، وعلى الطرف الآخر ستكون إما صديقاً لفلان أو محابياً لعلتان لأنك تحدثت عن ملمح إيجابي أتى في عمله ، وفي كلتا الحالتين ستكون مُدان ولا رأي لك وقد جافيت الموضوعية ، فقط لأنك كنت لسان حال نفسك ورفضت أن تكون مجرد ببغاء لمدّعين ، وللأسف هذه ثقافة العديد ممن يمتهنون العمل الفني الإبداعي لدينا ، هذه الثقافة التي يحاولون تجيّيرها على كل شيء في حياتهم .
ـ النقد بين الحضور والتغييب :
هذه الصورة التي يحاول العديد من صنّاع الفن تسويقها عن النقد ، فيرون أنه إما حجر عثرة ليس أكثر أو أنه غائب وينادون بضرورة وجوده ولكن على مقاس رغباتهم ، وكي لا يؤخذ عليهم حنقهم على النقد يستعينون بعبارة (هناك استثناءات) ، ولكن ما إن تتفوه بكلمة قد لا تروق لأحد ما حتى يرمي الوسط الثقافي والفني بسهامه فهو وسط قاحل بالنقاد والإعلاميين ، وليس هناك من كتابات نقدية أو رؤى توازي العمق الفكري والطرح البصري الذي يمتلكه ذلك العمل ومبدعوه ، هذا الاكتشاف يأتي نتيجة طبيعية لأي محاولة في (نكش) سلبيات هذا العمل أو ذاك ، ولا يأخذ الناقد (بطاقة المرحى) من المبدع أو الفنان إلا إن صفق لعمله وكال له المديح ، وما دون ذلك فهو متآمر يحمل كيد شخصي أكيد وحاقد على النجاح ويمتلك في داخله عقد الدنيا كلها .
المثير للاستغراب أن هذه هي نظرة الكثير من مبدعينا الذين نحبهم ونكبر بنجاحاتهم ، فهم يرون النقد الموجه إليهم بعين واحدة ، إنها عين المصلحة التي ترى في أي نقد إساءة ، كيف لا وقد يؤثر النقد سلباً على عملهم وعلى أجرهم في أعمال قادمة ؟ فالنقد الجاد يتعارض مع (البزنس) ومن الطبيعي أن يحاولوا طعنك ويقولوا أن نقدك سطحي لأنه ينال من مشروعهم ، ولكن أي مشروع ؟.. أهو مشروع البزنس والمال والشهرة والعلاقات ، وربما هذا ما يفسر المفارقة الأشد وطأة حين يعترف فنان بما قيل عنه في الإعلام من نقد عبر جلساته الخاصة ولكنه يهاجمه ويعتبره مجحفاً في المنابر العامة ، لأن أي نقد سلبي مهما كان موضوعياً قد ينعكس على مصلحته (ويؤثر على باب رزقه بشكل أو بآخر) لذلك هو يدافع عنه بأي ثمن .
والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة : من قال أن مهمة الناقد أو الإعلامي التطبيل والتزمير أو السعي لتدمير فنان ما ؟.. من قال أن كل ناقد يوجه لي اللوم هو عدو وكل من يُثني على عملي ويغفل سيئاتي هو صديق ؟!. ربما هي أحكام تبقى في الأذهان إلا أنه ليس لها أساس من الصحة سوى بعض الأقلام التي تحرّف الطبيعي عن مساره . ولكن بالعموم باتت هناك قناعة شبه عامة لدى الكثير من الإعلاميين والنقاد أن الهوّة تتسع شيئاً فشيئاً بينهم وبين صنّاع العمل الدرامي بشكل أو بآخر ، في حين كان ينبغي أن يتم عوض ذلك بناء الجسور المتينة لأن الهدف واحد والجميع تهمه الدراما السورية وأن تكون الأفضل فيما تُقدم بعيداً عن المصالح الضيقة . فالعلاقة إما أن تكون تكاملية هدفها واحد وهو محاولة السير بدرامانا وابداعنا ليكون في المقدمة دائماً ، أو أن نقص أصابع بعضنا البعض ولا نسمع إلا صوتنا وصوت من نريد ، وأي صوت مخالف نراه يحمل في طياته غاية ما ولا يخدم العملية الإنتاجية ، على الرغم من أن الواقع يقول عكس ذلك .
ـ جناحا البازي :
الأنكى من ذلك كله أن هناك من يخلط في مهمة الإعلام بين النقد الموضوعي والترويج البعيد عن المجاملة عبر الإضاءة على ما يتم إنجازه من أعمال فنية ، ففي حين يطالبه بصفة (الترويج للعمل الفني) ينفي عنه وإن ضمناً الصفة والمهمة الأخرى المتمثلة بالنقد ، وإن كان هذا الخلط غير مبرر لأن الكتابة عن العمل قبل عرضه تقع بشكل أو بآخر في خانة الترويج بينما الكتابة بعد العرض فغالباً ما تكون قراءة تشريحية وتحليلية ونقدية . ولكن ضمن هذا الإطار يمكن تشبيه الفن والإعلام أن كلاً منهما يمثل جناحاً للبازي ، فهل ينهض البازي بدون جناحين قويين متوازيين يستطيعان التحليق به إلى أبعد أفق ضمن علاقة تكاملية هدفها واحد في نهاية المطاف ، ألا وهو دعم مسيرة الحراك الفني في سورية وترسيخ أسسه الأصيلة القائمة على مفاهيم وعادات وتقاليد بنيت بعرق الكثير من الفنانين والمبدعين الذي غذّوا هذا الحراك من روحهم وعشقهم لفنهم وإخلاصهم له .
علاقة الإعلام بالفن محكوم عليها بأن تُبنى على المحبة والاحترام ، فكلاهما على متن مركب واحد إما أن يتكاملا ليسير المركب في طريقه بشكل قوي وسليم مهما علت أمامه الأمواج وهبت الرياح وإما أن يتخاصما ويضع كل منهما العراقيل والحواجز في وجه الآخر مما يُضعِف من قدرة المركب على السير فيغرق أمام أبسط مأزق أو نسمة هواء . عندما يقف الإعلامي على مسافة واحدة من الجميع ويطرح رأياً موضوعياً منشأه المحبة ومحركه خوفه على فنان بلده ، وعندما يكتب مادة إعلامية جادة ينتقد فيها عمل لفنان أو لمخرج أو.. وعندما يجري حواراً مشاكساً .. تكون غايته في ذلك كله نبيلة محركها المحبة . عندها فقط ستصل كلمته محملة بالحب نفسه وإن استقبلها بعضهم بفتور ، ولكن من يهرب من كلمة الحقّ لن يكون سوى نعامة تخبئ رأساها في التراب .
إنها دعوة للجميع للخروج من هذا النفق الساذج الذي يؤطر الكثيرون من خلاله الحالة الإبداعية وينظرون إليها من هذه الزاوية ، افتحوا أعينكم وآذانكم فقد دخلت الدراما السورية في الموسم الأخير تحدٍ كبير ونجحت فيه ، على الأقل من ناحية القدرة على تصوير عدد لا بأس به من الأعمال ، فدعونا نخرج من هذه القوقعة لنحتفي بدرامانا وبالمكانة التي وصلت إليها رغم كل ما حيك ضدها ، افتح اذنك الأخرى التي تستمع بها للناس وليس لمن حولك أو لأعدائك أو لأصدقائك ، استمع لمن لا يعرفونك ويرون عملك بتجرد لأنهم الأصدق ، دعونا نشد على أيادي بعضنا بعضاً بحب لنعكس هذا الحب في أعمالنا .. لنبقى في المقدمة في كل شيء حتى في علاقاتنا المهنية .