أنييس فاردا (2) : الفيلم الوثائقي مدرسة للتواضع


أنييس فاردا (2) : الفيلم الوثائقي مدرسة للتواضع

تقديم وترجمة: سعيد منتسب - جميلة عناب
  
أنسييس فاردا، مخرجة من «الموجة الجديدة في السينما الفرنسية» التي استطاعت إلى جانب فرنسوا تروفو وجاك ريفيت وإيريك رومر وجان لوك غودار وكلود شابرول.. إلخ، نقل السينما الفرنسية إلى منطقة أخرى أكثر حرية وأكثر إبداعية، حيث برعت باقتدار كبير في الخلط بين تيارات الإبداع السينمائي وأضافت عليها لمسات مليئة بعناصر البهجة الممتعة الى أقصى حدود الفرادة في التقاط الشخصيات والوقائع.

فمن مصوّرة فوتوغرانتقلت فاردا إلى عالم السينما من باب الصدفة، بعدما ذهبت إلى أحد الموانئ الفرنسية الصغيرة لتصوّر بعض المشاهد لصديق مصاب بمرض عضال لم يعد قادراً على زيارة قريته. وهناك قرّرت صنع فيلمها الأول، «لا بوانت كورت»(1954) (وهو اسم الميناء الذي تدور فيه أحداث الفيلم) حول زوجين يعانيان من مشاكل زوجية. وقد اعتبر هذا الفيلم بسبب كسره لقواعد السينما الكلاسيكية ممهداً لأفلام «الموجة الجديدة» التي طبعت السينما الفرنسية في النصف الثاني من القرن الماضي.
وقد عرفت فاردا، التي ولدت عام 1928 لأب إغريقي وأم فرنسة، بنشاطها السياسي المهموم بقضايا الحرية للمرأة والشعوب المستعمَرة وفي الانحياز إلى المهمشين حيث عبرت في مجمل أفلامها عن أشواق هذه الشرائح الانسانية والتمسك بالحياة رغم الكراهية والموت ولحظات القلق والحيرة والتوتر.

لكن فيلمها الروائي المعنون «كليو من الخامسة الى السابعة» الذي أنجزته العام 1962، اعتبر أفضل اشتغالاتها في السينما طيلة مسيرتها المديدة، حيث حظي العمل بصدى واهتمام نقدي لافت نظراً لحساسية ما قدمته من مشهدية متقنة الصنعة من ناحية تناول العلاقة بين الزمن الواقعي والزمن السينمائي محموم بحرارة عاطفية وإنسانية عالية تدغدغ فيها دواخل الذات بشتى ألوان البساطة والواقع. وهذا ما جعل أفلامها اللاحقة تجد صدى كبيرا عند النقاد والمتابعين للسينما، ومنها فيلم: «السعادة» (1965)، «المخلوقات» (1966)، «ليونز لوف» (1969)، «الواحدة تغني، والأخرى لا» (1977)، «حيطان، حيطان» (1981)، «بدون سقف ولا قانون» (1985)...، «مئة ليلة وليلة» (1995)، «بعد عامين» (2002)... إلخ.

فيما يلي الجزء الثاني من الدرس السينمائي التي ألقته أنييس فاردا بمهرجان كان السينمائي سنة 2000:

أظن أن كتابة الفيلم ممكنة في كل وقت، في وقت معاينة الأمكنة، وأثناء اختيار الممثلين وغير الممثلين، وفي تشكيل الفريق.
نقوم بهاته «الكتابة السينمائية» بمعية تقني التصوير وفني المونتاج أيضا، وبشكل أكبر في المونتاج. أنا، لدي شعور أني أصور وقت التصوير، وأكتب الفيلم أثناء المونتاج.

في بعض الأحيان، يحدث أن أفكر في التعليق أثناء التصوير نفسه، وهذا التعليق، - المكتوب أو في ذهني- يأتي بصور عديدة، التي بدورها تستدعي تعاليق أخرى..

في حمام ساخن جدا، يمكننا أن نتخيل المونتاج، بشكل هادئ وواضح.. نتخيل كلمات، مشاهد كاملة طيلة مدة الحمام.. أحب أن يكون هنالك نوع من الخلق المستمر، وأن تكون هاته الكتابة السينمائية التي تكتمل عندما ننهي مرحلة الميكساج... ذلك أن اختيار المؤلفين الموسيقيين، واختيارات الميكساج.. كل شيء بالنسبة لي هو اختيار، هو إعادة كتابة.

إن فكرة أن أجلس أمام ورقة بيضاء يخيفني، بالرغم من أنني أنا من تكتب أفلامها وسيناريوهاتها، وكل الحوارات والتعاليق..
مثلا، في فيلم «دون سقف ولا قانون» لم أكتب سيناريو بل ملاحظات، لم أكن أريد أن أعلم كل شيء عن «مونا».. أجده أمرا فظيعا أن يلم السيناريست بكل شيء: الذي فعلته قبلا، الذي ستفعله لاحقا، وما الذي تفعله الآن.. إنه أمر مجدٍ، فعلا، لكن من المهم جدا أن نقول لأنفسنا إن شخصية ما في فيلم روائي، تتعدى مبدعها، تتعدى كاتب السيناريو. أردت أن تكون هناك جوانب من حياتها ومن سلوكاتها غير مفهومة، أردت أن يكون المُشاهد مثلي، يُحاول أن يفهم المغزى، من خلال ما قالته السيدة في الحانة، وما قاله القيِّم على المرأب، وما قاله العامل في البناء الذي رآها وهي مارة، أو تونسي يشذب شجرة كرم...
في حوار ذات يوم، ذكرني أستاذ اللغة الفرنسية برواية ستاندال «الأحمر والأسود»، وقال إن شخصية من الرواية، بمثابة مرآة تتقدم طيلة الطريق، رائع!! لأنه فعلا كذلك.. مونا في فيلم “دون سقف ولا قانون” ، تمثل مرآة، نتعلم أشياء كثيرة حول المجتمع القروي خلال سنوات الثمانينيات، كما استطعت أن ألاحظ على مونا نفسها، تستطيع أن تفهم الآخرين في حين أنها لن تستطيع فهم نفسها.. أثناء التصوير، كنا نكتب في لوحة: “للفهم”.. بالنسبة لي، كانت غير قابلة للفهم.
لقد كانت البنية المختارة صعبة جدا: تسع ترافلينغات غير متصلة.. غير أن مونا كانت دائما تمشي من اليمين إلى اليسار، إنها بنية معقدة، نفس الشيء بالنسبة لموسيقى جوانا بروزدويكز، رائعة لكنها صعبة، ذات الإثني عشرة نغمة... باختصار، هو فيلم لا يدغدغ المتلقي، لكن أرى الأمر عكس ذلك !! أعتقد أن هناك قوة ما في طريقة كتابة الشخصية، وفي التشخيص الرائع لساندرين بونير التي تجلب الغضب اللامصدق والقشعريرة المذهلة.

هناك شيئان متميزان: التحفيز والإلهام، كان طلبي للاستفادة من التسبيق على المداخيل قد قوبل بالرفض، في فيلم عنونته «الكائنات»، وقد أخبروني بذلك أحد أيام الجمعة صباحا، وقد غضبت كثيرا، وقلت:

متى يحين موعد الدورة القادمة؟

أجابني: « الثلاثاء، يجب وضع السيناريوهات قبل الساعة الخامسة بعد الزوال»

سأضع سيناريو آخر..

وكتبت سيناريو آخر، عنونته «سعادة»، وكنت أحمل انطباعات، وأحاسيس.. لم أفكر البتة بقصته قبلا، كتبتها طوال العشية وفي المساء ويوم السبت صباحا.. استعملت الكثير من المسودات، لم أغادر السرير أنا وجاك، الذي كان ينقل في أوراق بيضاء، كل ما كتبته وكل ما مددته به، حتى تتمكن فتاة كلفناها برقن النص من جعله قابلا للقراءة بشكل أوضح.. عشية يوم الاثنين أتى موعد التسبيق على المداخيل.

الآن، يمكنني القول إن هذا الفيلم لم يولد إثر إلهام، بل إثر غضب أثار محركي وجعلني أسير على الطريق بسرعة فائقة.. كان فيلمي الأول بالألوان، وكنت مُستثارة جدا لأُجَرِّبَني أمام لوحة تعبيرية، مستوحاة من صباغات جزر فرنسا.
الإلهام شيء آخر.. إنه أكثر) صميمية (، أكثر عمقا، لا يمكننا القول، هكذا، في يوم ما: « أنا مُلْهَمة، وسأنجز فيلما رائعا، سأكتب قصيدة شعرية...»، وهنا، بخصوص الإلهام، أحضرت معي نصا سأقرؤه عليكم، وهو شعر لـ»كونو» من كتاب «لحظة قاتلة». وهو كتاب جميل:
إلهي العطوف، إلهي العطوف، لي رغبة في كتابة قصيدة قصيرة

ها هي واحدة تعبر

شيئا فشيئا

تعال هنا لأضعها لك

على طول القلادة في قصائدي الأخرى

تعال هنا لأصممك

في لوح من أعمالي الكاملة

كل هذا لأقول إن الإلهام، لا يمكن امتلاكه.. بل الأمر ممكن إن أردنا ذلك، علينا أن لا نتمنى نظم قصائد شعرية، أن لا نتمنى إنجاز أعمال هائلة، بل علينا أن نعمل من أجل ذلك، علينا أن نعمل من أجل ما هو غير مرتب، من أجل اعتقادات صعبة المنال، أو أشياء غير ملموسة.

بونويل، الذي يعتبر أستاذا، قال شيئا رائعا: «في مكان ما بين الصدفة والسر يوجد الخيال، الحرية الكاملة للرجل»، بين قوسين، المرأة أيضا.. هذه الكلمات: «سر»، «صدفة» تبدوان جد صحيحتين، أظن أننا، في بعض الأحيان، نعمل دون أن نعي ماذا نفعل، أي أن هناك أشياء خفية تجعلنا نعمل كذلك، تلك اللقطة، الكتابة بهذا الشكل، طلب هاته الحركة أو تلك.. يلزمنا الكثير من الصدف.. استدعيت الصدفة بكل قوتي في كل مرة أباشر التصوير.. والصدفة أتت، الصدفة تخدمني دوما، ليس بشكل كلي بل تقريبا.
في «Les glaneurs»، دخلنا عند تاجر خردة، وجدنا لوحة لامرأة متشردة، عندما قمت بتصوير «كليو من 5 إلى 7»، سنة 1962 في باريس، فعلا سطرت طريقي قبلا، لكن شاءت الصدف أن تكون هناك محلات تحمل اسم «صحة جيدة»، أخرى تسمى «مأتم»... كل ما كانت له علاقة بالمرض والموت أُريدَ له أن يوجد على طول طريقنا المرسومة.. هو فيلم تدور أحداثه ما بين الساعة الخامسة والساعة السادسة والنصف.. امرأة جميلة جدا تخاف نتائج فحص طبي، تخاف أن تكون مصابة بسرطان ما.. كان موضوع الفيلم حول الموت والجمال.

كانت هناك صورة وبطاقة بريدية تستنسخان لوحة هانس بالدونغ كريان، دير تود أوند دي فرو، الموت والمرأة.. امرأة، جميلة، جميلة البشرة كما نساء اللوحات الألمانية خلال القرن السادس عشر، شقراوات، جميلات، كبيرات.. وهناك هيكل عظمي يهمس كلمات في الأذن.. لوحة أخرى لنفس الفنان حيث الهيكل العظمي يجر شعر المرأة، إنها علاقة الجمال بالموت، المبلل والجاف، اللحم والعظم، الجمال والقبح، هذا التضاد، هذه المواجهة.. تكفيني صورة واحدة لأعرف عن ماذا يتحدث الفيلم.. كنا نتوفر على تلك البطاقة البريدية طيلة مدة تصوير «كليو من 5 إلى 7»، ألصقتها في جانب من الديكور.
وعندما أعددت وصورت «جاكو نانت» الذي يدور حول طفولة جاك ديمي كما حكاها لي، كان لنا الحظ أن نصور في الورشة الحقيقية التي نشأ بها. لكن أين كانت تقع تلك الحفرة القديمة التي تسمح للعامل بالنزول تحت السيارة؟ لا جاك ولا أمه تذكراها.. وقلت: «إذن، سنخترعها، سنختار الموضع الأحسن لنتمكن من تصويره من كل الجهات».. استدعينا بَنّاءً، وقام بتقييم الثمن في حدود اثنين وعشرين ألف فرنك، كان من الواجب حفر متر وعشرين سنتيمترا عمقا، «هيا، سيحفر، وبعد عشرين سنتيمترا سيسقط في الهوة القديمة».. ولأسباب سينمائية صرفة، كنت قد وجدت المكان الصحيح للحفرة التي تعود لسنة 1940، تروقني مثل هذه القصص، هكذا يساعدنا السر والصدفة على العمل، دون أن نتحكم فيهما.

إن الفيلم «جاكو نانت» هو بحث عن الخيال. كثير من السينمائيين، كثير من الكتاب... يتكلمون عن طفولتهم الخاصة، لكن أنا، قمت ببحث وتحرٍ في طفولة جاك، كان مرتاحا وهو يحكي لي، لم أكن أقرأ أفكاره، لم يكن يعلم تماما ما الذي أفعله، لكنه كان يعلم جيدا أنني بصدد تصوير طفولته، لأن طفلا يشبهه كان يجلس أمامه، امرأة تشبه أمه كانت قد لعبت دور أم الصبي، رجل لعب دو الأب وكان أيضا يشبه أباه.. وأنا، كنت قد اخترعت حوارات عائلية من وحي ما كان يقال في العائلة سنتي 1942/ 1943، ومن وقت لآخر أطلب منه «أنصت، هل كنت تسمع هذا؟ هل هذا هو بالضبط؟ هل هذا صحيح؟» وكان في مرات عديدة يقول لي: « أنا هو، أنا هو»، أظن أنه وجد طفولته تماما كما كنت أتخيلها، أو كما كانت حقيقية. قد يحدث أن أتخيل أشياء قيلت تماما.. يمكن أن أكون قد اخترعت.. ليس للأمر أية أهمية، مادام قد قبلها كما لو كانت جزءا من طفولته، واعترف بها.
أظن أن الأهم هو التواصل وليس الفهم، لست واثقة.. من جهة أخرى، ينبغي على المشاهد أن يفهم ما يرى، لكن عليه أولا أن يحس، أن يتواصل وكل الأمور، بما فيها تلك التي تشغل مبدع الفيلم.. القلق والانشغال لا يُفهمان بالضرورة، بل يحققان تواصلا.
عن طيب خاطر، أتكلم عن أشياء أخرى غير السينما، لأن هناك أساتذة أكفاء جدا في الكليات ومدارس السينما، يُعتبرون مراجع في السينما وأيضا مراجع في التقنية.. نعم التقنية تُلقن بسرعة، بغض النظر الآن عن وجود ثورة كاميرات صغيرة رقمية، نتحدث الآن عن عصر نستطيع فيه أن نُؤفلم ما نفكر فيه، تماما كما لو كنا نُدوِّن ملاحظات.

في جزء من فيلم « Les glaneurs »،على الأقل ربع ساعة، أنجزتها لوحدي، عندما صورت شعري، أظافر رجليَّ أو يدي في الطائرة، أتيت بأشياء قد لن أستطيع أن أطلبها من تقني أن ينجزها.. فكرة محاولة الإتيان بشيء شخصي من شأنه أن يحركنا في فيلم مهني، هي مسألة تغير قليلا من المعطيات.

أحب أن أصور ما أسميه « الناس الحقيقيون»، لا أتحامل على الممثلين، بل اشتغلنا معا بكثير من المتعة، لكني كنت دائما مندهشة من الناس، ناس الشارع، ناس البادية، ناس نلتقيهم عندما يكون لدينا متسع من الوقت، عندما تكون لدينا الرغبة في ملاقاتهم.. ما يقولونه، ما يفعلوه، طريقة تعاملهم هي درس رائع.. هناك كلمة أخرى، كلمة صغيرة لـ»كانو»، كانت مضحكة جدا: كان يتكلم بخصوص كل «رجل صغير»، بخصوص هاته الحيوات.. الفكرة، هي أن ضخامة هذا الكون تتسع حتى لأصغر النقاط، التي تبدو- كل منها على حدة- كل شخص لا يمكننا معرفته إلا إذا اقتربنا منه، والتقيناه، واهتممنا به... إذا ارتبطنا به، إذا أخذنا في تصويره، وفغي إعطائه وجودا آخر، الوجود المؤفلم.

ففي هذه اللحظة تصبح تلك الشخصية المجهولة شخصية معروفة، لأن وجودها ينتقل الى أشخاص آخرين، يبدأون في التعرف عليها، ومن ثمة يبدأون في حبها.

وهكذا أتذكر أنه عندما أنجزت فيلما وثائقيا حول أناس الزقاق الذي أقطنه، فيلم Daguerreotypeكان هناك بزاز وبزازة، لم يكونا صغيرين في السن، ولم يغيرا واجهة محلهما منذ ثلاثين سنة. كان يصنع بنفسه عطوره التي كان يضعها في قوارير، وكانت هي تتحرك كروح تائهة داخل المحل. كانت تنسى، كانت لا تتذكر الأشياء، غريبة نوعا ما، وكل يوم في الساعة السادسة مساء كانت تفتح الباب وتذهب هكذا على الرصيف. زوجها الصارم كان يقول: «في كل مساء تريد الرحيل، لكنها لا ترحل». فهذه المرأة وزوجها، اعتقد أنه لا يمكن نسيانهما. تلقيت مرتين رسالتين من أشخاص يسألونني: «انت الذي أنجزت هذا الفيلم، هل بإمكانك أن تقدمي ورودا لهذه السيدة؟ وهناك أناس اخرون في بلدان بعيدة حدثوني عنها. تلك السيدة.. ماتت، لكنها تبقى كمرجع، شخصية في الفيلم الوثائقي تظل في ذاكرتنا، وفي فيلم Les glaneursهناك شخوص لا يمكن نسيانهم، ذلك الرجل بحذاءه الطويل الذي يجوب المدينة من صندوق قمامة إلى آخر، وهو يقول: «أنا ملك المدينة، الجميع، يرمي كل شيء وأنا احصد كل شيء».
لست أنا من كتب هذه الحوارات، هو من كتبها كلها. فإنجاز الفيلم الوثائقي ليس مهما فحسب، بل هو مدرسة للتواضع.
نتحدث في كل وقت وحين عن النفايات النووية، لكننا لا نتحدث عن واقع أناس أثارني، أناس يعيشون على فضلات الآخرين، واقع أناس يقتاتون من بقايا حاويات القمامة ، يجمعون ما في الأسواق عندما ينتهي السوق، أناس يعيشون من بقايانا. أقول بقايانا لأننا نحن الموجودون هنا، نأكل بشكل طبيعي تقريبا. لا نحس بالجوع. لكن هناك أناس يحسون بالجوع وفقراء الى درجة جمع النفايات والبقايا في الأسواق. أثارني ذلك إلى درجة أنني أردت أن أنجز فيلما حول الموضوع، فيلم صادق. لا أريد إنجاز فيلم بنبرة بئيسة، بل فيلم حول «كيف يعيشون هم أنفسهم هذه الوضعية، ماذا يقولون عنها، أفكارهم حولها، نظرتكم للمجتمع». فكلما اقتربت من هؤلاء الناس الفقراء جدا أو الاذكياء جدا أو فقط المليئين بأحاسيس عميقة، كلما اكتشفتهم أكثر. هم في الغالب أسخياء، وهو شيء مثير للمتعة، والمرح النسبي لأناس يعيشون في البؤس…

عموما، عندما أنجزت فيلما وثائقيا، أنجزت بعده فيلما تخييليا، والحدود بين النوعين غير مغلقة (…) لابد أن تحس بنصية توثيقة في الأفلام الخيالية، ولابد من خلق شخصيات في الأفلام الوثائقية ففيلم «بلا سقف ولا قانون» فيلم خيالي، بمعنى أن منى شخصية مختلقة، فكل شيء مكتوب، حتى لو كانت شخصيتها تتغذى ومستلهمة جزئيا من أناس التقيتهم، ومن أشياء سمعتها أو رأيتها. على سبيل المثال، التسكع طيلة ساعتين أو ثلاث، أثناء الليل في محطات القطار عندما لا تكون هناك قطارات. وبطبيعة الحال التحدث مع الناس في البادية. الفيلم موثق لكن الشهادات في الفيلم مكتوبة. إنها ليست شهادات حقيقية. وخلال التصوير، احتفظت بهذه البنية التوثيقية للنص حتى نصدق القصة (…).

في الأفلام الوثائقية الاشخاص الذين نلتقيهم أو نصورهم مهمون وغير متوقعين إلى حد أنهم يصبحون شخصيات كما لو أنهم شخصيات فيلم خيالي.

أنا انتقل من الوثائقي إلى الخيالي والعكس صحيح.. طريقتي في التفكير وكل أفلامي تتضمن التناقض: الأفلام الوثائقية والأفلام الخيالية الزمن الذاتي والزمن الموضوعي. هذا يغني، والآخر لا، الحمال والموت. فالصيادون في فيلم «لا بوانت كورت» عبارة عن زوجين يتحدثان. هذه التناقضات تعني كذلك خلق الفرجة والحديث عن الحياة الداخلية، إنه مجال الداخل الذي يجب أن يجد شكلا سيكون إطاره وصوره هو مجال الفيلم. وليكون كل هذا العمل في الداخل والخارج، أشعر بنفسي قريبة من القطط. لقد لاحظتم: عندما يكونون في الداخل، يريدون الخروج، وعندما يكونون في الخارج يريدون الدخول. هل هذا درس في السينما؟ لا أدري، أقول أي شيء..

أريد أيضا أن أتحدث عن مدة السينما، التي ليست زمنا. أنا التي كنت مصورة، رأيت الفرق. فالصورة، أضعها على الحائط، ويمكنكم أن تشاهدوها لثانيتين أو لخمس دقائق. يمكنكم إما أن تبقوا أمامها، أو يمكنهم أن تفعلوا في اليوم الموالي. أنتم الذين تختارون مدتكم. أما في السينما، فالمخرج هو الذي يفرض عليكم مدة المشاهدة. فإذا، وضعت في فيلم لقطة لبطاقة بريدية مدتها خمس ثوان، فأنتم ستشاهدونها لمدة خمس ثوان، وليس ست، ولا ثلاث، ولا أربع. فالمشاهدون ألفوا اللقطات المكبرة التي تستغرق خمس ثوان، أو اللقطات المتحركة التي تستغرق عشر ثوان. أما التحول الكبير، فهو الفيديوكليبات التي نشاهدها في التلفزة، وهي موضبة بارتجال وأقصى سرعة. لقد غيروا تلقي المشاهدين للزمن. لم يكن بوسعنا أن نتخيل هذا في سينما الماضي. كثير من الأفلام القديمة تظهر لنا بطيئة. إنها جميلة ربما، ولكننا نشعر بها بطئية. لا أقول هذا من أجل أن أقترح عليكم أن تقوموا بمونطاج مرتجل... أريد أن أقول بأنه وقع مؤخرا التلاعب بزمن المشاهدة المقترح أو المفروض على المشاهدين..

هناك مخرجون ينجزون لقطات طويلة جدا، مثل شانتال أكيرمان في فيلم «جان دييلمان»، حيث نشاهد بطلة الفيلم «دلفين» الرائعة وهي تقشر البطاطا بشكل كامل. كان الأمر صادما تقريبا، إنها مدة أنشأتها شانتال. ومن المهم ومفيد في الوقت نفسه أن يكون بوسعنا القيام بذلك. وكذلك فعل غودار الذي عودنا على لقطات غريبة تستغرق أحيانا مدة غير مفهومة يفرضها. ليس علينا أن نفهم ذلك أو نحبه، ولكننا نعرف بأن لهذه المدة أثر. وعملنا يقتضي أن نتوقع ما هو الأثر الذي يخلفه ما نقوم به. وليس أن نقوم بالعمل قائلين: «لنرمي به كيفما اتفق، ما دام بإمكانهم تدبر أمرهم». عملنا يفرض علينا أن نقول: «ما هو التلقي الممكن لما أشعر به بالنسبة للمشاهد؟»، هذا على افتراض أن لدينا قاسما مشتركا بالنسبة لانطباعاتنا ومشاعرنا..

إن مشروع فيلم «كليو» هو الانتظار الذي تبديه تلك المرأة المطبوعة بالخوف، ولهذا فإن زمنها ينضغط ويتمدد، فالساعة تكون الخامسة، ثم تصبح الساعة الخامسة و20 دقيقة، ويتوالى الزمن. إنها لا تتلقى الوقت بالطريقة نفسها، ولا الخوف بالطريقة نفسها. هناك الزمن الذي يقاس بالساعات، وبالمسرعات، وبعدادات السرعة، وهناك الزمن الموضوعي، أي الزمن الذي نشعر به. فأثناء خروج فيلم «كليو» إلى القاعات، قمنا باستطلاع صغير للرأي، وطلبنا من الناس إرسال أجوبتهم. كانت الأجوبة رائعة، وقد احتفظت ببعضها. فهم الناس جيدا الفيلم. كانت هناك ردود دقيقة جدا وذكية. قلت لنفسي: « المتفرجون ينتبهون جيدا.. كل شخص يتلقى الفيلم وكأنه موجه إليه...

وبالنسبة للناس، أريد أن أقرأ قصيدة كتبها كينو Queneau، وهي مأخوذة من سلسة «Si tu imagine»، وتحمل عنوان «الفضاء الانساني». إنها قصيدة مثيرة للفضول:

الفضاء الانساني منحني

حق أن أكون فانيا

واجب أن أكون متحضرا

الضمير الإنساني

عينين لا يعملان مع ذلك جيدا

قدمين ويدين

اللسان

الفضاء الإنساني منحني

أبي وأمي

أبناء عمومة بالمجارف

وأجدادا

الفضاء الانساني منحني هذه القدرات الثلاثة

الإحساس، الذكاء والإرادة

كل واحد بشكل متعدل

الفضاء الإنساني منحني

اثنين وثلاثين سنا، قلب، كبد، أحشاء أخرى وعشرة أصابع

الفضاء الإنساني

ما يجعلني راضيا

فعبر ثلاث كلمات رائعة، «الإحساس، الذكاء والإرادة»، قال كل ما أراه واجبا.

هناك أساتذة في السينما، وهناك أيضا مرشدون في الحياة. وبالنسبة إلي، يعتبر غاستون باشلار وناتالي ساروت هما شيوخي.. مرجعيتي. في الصين، يضعون على مهود الرضع صورتين تمثلان كائنات حامية. فكرت دائما في باشلار وستاروت، فقد حمياني خلال حياتي كلها من القماءة. فبفضل حمايتهما، أحس أحيانا بأنني بليدة، لكن لم أشعر قط بنفسي قميئة. أريد أن أستشهد بساروت، لكنني سأنهي الدرس ببياشلار: «الخيال الذي يحكي ينبغي أن يفكر في كل شيء، ينبغي أن يكون ممتعا وجادا، وينبغي أن يكون عقلانيا وحالما. يلزمه أن يوقظ الاهتمام العاطفي والروح النقدية».

نعم، هذا هو ما أريد فعله، أنا المخرجة.

جريدة الاتحاد الاشتراكي 3/25/2016







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية