د. رياض عصمت
فيلم "هاكسو ريدج" (2016) فيلم حربي بامتياز، لكنه بالقدر نفسه فيلم إنساني عميق يحرض الفكر والأحاسيس معاً. إنه الجوهرة الإخراجية الجديدة للمخرج المقل ميل غيبسون، الذي دخل مجال الإخراج بعد بلوغه قمة الشهرة في التمثيل عبر سلسلتي أفلام شهيرتين هما "ماكس المجنون" و"السلاح القاتل" وأفلام عديدة أخرى نذكر منها "فدية" و"إشارات" و"هاملت"، فحاز أوسكار الإخراج وليس التمثيل عن فيلمه "قلب شجاع" (1996)، وأثار ضجة كبيرة بإخراجه "آلام المسيح" (2004)، وأبدع بإخراجه "أبوكاليبتو" (2006). ها هو ذا غيبسون يخوض المنافسة مرة أخرى في طراز جديد لم يسبق له أن قاربه من قبل، فيخرج فيلماً حربياً يضاهي مخرجي الأفلام التالية: ستيفن سبيلبرغ في "البحث عن العريف رايان"، أنجلينا جولي في "لا يكسر"، ديفيد آير في "غضب" وكلينت إيستوود في "القناص الأمريكي".
يروي فيلم "هاكسو ريدج" قصة حقيقية لشاب ريفي يدعى دزموند دوس، نشأ مع أم ورعة وأب سكير، وتاب عن العنف منذ كاد أن يقتل والده بمسدس في نوبة هياج وهو يدافع عن أمه. يقع دزموند في هوى صبية حسناء تعمل ممرضة، ويعرض عليها الزواج فتوافق، لكنه لا يتردد عن التطوع في الجيش الأمريكي اقتداءً بأخيه الأكبر نتيجة شعوره الوطني العميق، مشترطاً أن يمارس العمل الطبي الإسعافي دون أن يلمس سلاحاً. عندما ينضوي دزموند متدرباً في معسكر حربي، لا يأبه أحد من رؤسائه وزملايه بموقفه المسالم الرافض لحمل السلاح، بل يسخرون منه ومن أنجيله الصغير الذي يضم صورة حبيبته وذكرى منها. هكذا، بالرغم من تفوقه في التدريب الجسدي، يعتدي بعض رفاقه عليه بالضرب المبرح لأنه في نظرهم متخاذل وجبان، بل ما يلبث دزموند أن يساق إلى محاكمة عسكرية لرفضه الانصياع إلى أوامر قائد المعسكر، ويواجه خطر حكم الإعدام. يبادر والد دزموند السكير لإنقاذ ولده بمعجزة عبر واسطةٍ من قائده القديم الذي أضحى يحمل رتبة عالية في الجيش، فتجد المحكمة العسكرية عذراً لديزموند كشخصٍ صاحب ضمير لا تسمح له قيمه أن يعمل مقاتلاً، بل ضمن طواقم الإنقاذ الطبي فقط. بهذه الصفة، يذهب دزموند مع قطعته العسكرية إلى اليابان، حيث تخوض القوات المريكية معارك طاحنة للاستيلاء على قمة جرف شاهق تدعى /هاكسو ريدج/، هي الطريق إلى إخضاع /أوكيناوا/ والسيطرة على اليابان. لكن حجم المقاومة اليابانية التي تقاومهم في تلك البقعة هائل، إذ يسقط المئات من الأمريكيين بين قتيل أو جريح، ويعجزون عن انتزاع تلك القمة من اليابانيين بالرغم من قصف البوارج الحربية. هناك، في خضم تلك المعركة الرهيبة، يقوم دزموند دوس بما لم يتصوره أحد، فينقذ بشجاعة فائقة أرواح العديد من زملائه وضباطه. حتى عقب انسحاب القوات إلى أسفل تلك القمة الشاهقة، يصمم ديزموند على البقاء وحيداً لإنقاذ عشرات الجرحى، وإنزالهم بالحبال ليتلقوا العلاج في المستشفى الميداني. أخيراً، يصاب دزموند نفسه وهو يقوم بأفعاله الإنسانية البطولية، ويحمله المنقذون على نقالة، لكنه يصيح مصمماً ألا يغادر قبل أن يجلبوا له أنجيله وصورة حبيبته. بعد انتهاء الحرب، وكسب الأمريكيين معركة /هاكسو ريدج/ عاش دزموند دوس الحقيقي طويلاً، وأصبح أمثولة للبطولة والفداء، ونال التكريم والأوسمة لشجاعته في القيام بإنقاذ أرواح كثيرين. نعلم من الصور والمعلومات التسجيلية في نهاية الفيلم أن دوس أنقذ أرواح 75 شخصاً على أقل تقدير، بل يقال إن الرقم قد يصل إلى 100 إنسان. صرح ميل غيبسون إنه اضطر إلى حذف بعض الحكايات عن دزموند دوس لأن الجمهور لن يصدقها وسيشعر بها مبالغة وخيالية، إذ أن دزموند أصر وهو مصاب ومحمول على نقالة أن يترجل منها عندما رأى جريحاً آخر، وأصر أن يسعف الجريح قبله إلى المستشفى قبل أن يعودوا إليه لإنقاذه. خلال ذلك، أصيب بطلقة من قناص، لكنه تمكن من النجاة، وعاش إلى عمرٍ ناهز 87 عاماً!
فيلم "هاكسو ريدج" (2016) ماسة سينمائية تنعكس على سطوحها الأضواء فتتألق بألوان قوس قزح. لا يستطيع المشاهد إلا أن يحيس أنفاسه مع تقدم الفيلم من طفولة ديزموند وشبابه في مجتمعه الريفي إلى فترة تدربه في المعسكر، وصولاً إلى مشاهد الحرب المبهرة في قسوتها وبصريتها على قمة /هوكسو ريدج/ في اليابان. في الواقع، تضافرت عناصر عديدة لتجعل هذا الفيلم أحد أبرز أفلام عام 2016، وربما أحد أهم الأفلام خلال عدة أعوام. تجلى العنصر الأول عبر السيناريو الذي اشترك في تأليفه روبرت شينكان وأندرو نايت، إذ أضاء الكاتبان بصورة كلاسيكية متقنة للغاية جوانب مهمة من طفولة دزموند دوس وشبابه أغنت الفيلم بشاعرية جذابة وممتعة، كما بررت منطقياً إصراره على رفض حمل السلاح، وشهامته في إنقاذ الأرواح. يزداد المرء إعجاباً بالسيناريو كلما تقدم الفيلم عبر ومضات الاستعادة الوجيزة لتلك اللحظات التي أسهمت في موقف ديزموند العنيد، وكذلك في مشاهد علاقته بأبيه وأمه وأخيه وحبيبته. تجلى العنصر الآخر الساحر في هذا الفيلم عبر جودة التمثيل. قدم أندرو غارفيلد (المشهور بدور سبايدرمان،) تجسيداً ممتازاً لشخصية شاب ريفي مرهف الإحساس، يجمع ما بين السذاجة والشجاعة، وما بين الرومانسية والإنسانية. بدورها، قدمت تيريزا بالمر شخصية الحبيبة دوروثي بشكل شاعري بسيط وصادق، فأبدعت وأقنعت في مختلف مراحل دورها، وجعلت المشاهد يتعاطف معها حين يغيب حبيبها عن حضور الزفاف في الكنيسة بسبب حرمان ضباطه له من الإجازة لموقفه ضد حمل السلاح، ثم يشعر المشاهد بالاحترام تجاه إخلاصها ومحبتها وثباتها إلى جانب من وهبته قلبها. لعب سام ورثنغتون دور الكابتن كلوفر، ودينيس كرنشر دور الرقيب، وراشيل غريفيث دور الأم، بشكلٍ لائق. لكن دور الأب برز بشكل لافت للنظر عبر أداء رفيع المستوى من الممثل القدير هوغو ويفنغ، وهو دور أعتقد أن سيرشحه كمنافس قوي على أوسكار أفضل ممثل مساعد. جدير بالذكر، إن هذا الفيلم قدم أول مشاركة تمثيلية لميلو غيبسون، ابن ميل غيبسون، وربما كان هذا الدور الصغير فاتحة لصعوده مستقبلاً في أدوار أطول وأهم ليحمل شعلة والده في التمثيل.
أما العنصر الثالث وراء تفوق هذا الفيلم، فهو بلا شك قيادة ميل غيبسون الإخراجية لطاقم تقني ممتاز، يتقدمه مدير التصوير سايمون دوغان، والمونتير جون جيلبرت، والمؤلف الموسيقي روبرت غريغسون-وليامز. استطاع هؤلاء بمساعدة مصممي المناظر والديكورات والمكياج البارع أن يخلقوا ملحمة حربية مذهلة، حافلة بالمفاجأآت، يسقط فيها عشرات الضحايا بصورة مفجعة ومؤلمة، لكنها تنتهي بنصر حاسم ضد اليابانيين، الذين ينتحر قائدهم بالهاراكيري بعد الهزيمة. صور ميل غيبسون في "هاكسو ريدج" ملحمة بصرية مبهرة لمعركة شهيرة تاريخياً، ربما فاقت في إقناعها ورهبتها حتى الواقع نفسه. فيلم "هاكسو ريدج" (2016) واحد من الأفلام الحربية التي ستدخل تاريخ السينما بجدارة من دون شك، وسيبقى الفيلم بمغزاه الأخلاقي العميق، وبروعة صنعته الفنية المتقنة، نموذجاً رائعاً لما يمكن للسينما أن تصل إليه وتحققه من أثر خالد. نال الفيلم 8.7 درجات، وهي علامة تقدير مستحقة لفيلم عظيم.