د. رياض عصمت "حيوانات ليلية" (2016) هو الفيلم الثاني للمصمم الشهير توم فورد بعد فيلمه الأول "رجل وحيد" (2009)، وقد تقدم عليه في التقييم بضع درجات لينال 8 علامات، ويثبت مخرجه بهذا ذوقاً رفيعاً في الفن يضاهي ذوقه في ابتداع الأزياء والعطور. اللافت للنظر أن توم فورد هو كاتب السيناريو أيضاً اقتباساً عن رواية "توني وسوزان" للروائي أوستن رايت، وللسيناريو في هذا الفيلم قيمة كبرى دعمها مونتاج جوان سوبيل البارع وموسيقا آبيل كورزينسكي، وكلاهما سبق أن عمل مع فورد في فيلمه الأول. أما التصوير، فقام به شيموس ماكغريفي، مدير تصوير "المنتقمون" و"التكفير" و"غودزيللا"، وجميعها تشي ببراعته الفائقة. "حيوانات ليلية" قصة في قلب قصة، بل يعود الفيلم إلى الماضي في قصة ثالثة. عبر نسيج متقن وبارع، يصول ويجول بنا توم فورد بين ثلاثة أزمنة، ذهاباً وإياباً. سوزان امرأة تملك "غاليري" للفن تقيم فيه أهم المعارض، وهي تعيش مع زوجها الثاني شديد الوسامة والثراء حياة باذخة ومريحة، ولها ابنة شابة منه. كل شيء في عالمها مستقر ويوحي بالنجاح، إنما من الظاهر فقط. إنها تشك في أن زوجها يخونها خارج إطار الزواج، وأن ابنتها تعيش بعيدة عنها مع حبيب، فتشعر سوزان بالوحدة والملل والقلق. فجأة، يصلها بالبريد إلى مقر طرد، تفتحه فتجد فيه مخطوط رواية اسمها "حيوانات ليلية" من تأليف زوجها السابق توني، الذي انفصلت عنه منذ نحو عشرين سنة. تصطحب المخطوط إلى بيتها، وتجلس وحدها لقراءته خلال سفر زوجها في مهمة عمل مزعومة برفقة عشيقته. سرعان ما تستحوذ الرواية على انتباه سوزان، وتتوحد مع شخصياتها، وتستثار من أحداثها المشوقة. يأخذنا الفيلم إلى تلك الأحداث، فنرى سفر توني وزوجته وابنته الشابة في سيارة ليلاً على طريق ريفي في ولاية تكساس. خلال سفرهم، يحتكون بشكل استفزازي بسيارة يركبها ثلاثة شبان، فيطاردونهم ويصدمونهم ويوقفونهم عنوة. بعد أخذ ورد، يضربون الرجل، ويخطفون زوجته وابنته بالقوة. يهرب توني منهم بصعوبة، ويختبئ وسط الصخور في منطقة قاحلة. عندما يشرق الصباح، يبحث عن زوجته وابنته، فيجدهما عاريتي الجسد ومقتولتين بعد أن جرى اغتصابهما. ترتاع سوزان من قساوة الرواية وعنفها، لكنها لا تتمالك نفسها من متابعتها بشغف. يلجأ توني إلى الشرطة، ويساعده ضابط بوليس قاسي الملامح والسلوك، سرعان ما يعلمه أن أحد المشتبه بهم قُتل، بينما ألقي القبض على الآخرين. يتعرف توني إليهما، لكن القانون لا يثبت عليهما التهمة لنقص الأدلة، فيطلق سراحهما. تشعر سوزان بموهبة طليقها الروائية، وتعود بذاكرتها إلى فترة شبابهما قبل عشرين سنة، حين عصفت رياح الحب بقلبيهما، فاقترنت به متحدية أمها التي وصفت توني بالضعف، متوقعة ألا يصمد زواجهما للأنواء. بالفعل، يدب الخلاف بينهما، وتجهض سوزان متعمدة، وتشكو من نقص المال، وتسيء إلى زوجها توني بالتشكك في موهبته الروائية عندما يأخذ رأيها في مخطوط روايته الأولى، وسرعان ما يضبطها مع شاب ثري ووسيم في موقف عاطفي، فيتم الطلاق. تحن سوزان إلى ماضيها السعيد، وتشعر أنها تسرعت في قرارها آنذاك، وأنها ظلمت توني وأحبطته، بينما أحبها بعمق وأخلص لها، مشبهاً إياها بالحيوانات الليلية، التي تنام نهاراً وتسهر ليلاً. تقرأ سوزان خاتمة الرواية المثيرة. يصارح ضابط البوليس توني بأنه مصاب بمرض عضال، وأنه سيموت لا محالة بعد فترة وجيزة، ويحثه على الانتقام ممن قتل زوجته وابنته ونجا من سلطة القانون. بالفعل، يذهب الاثنان لمداهمة وكر المجرمين، ويطلق الضابط النار فيردي أحدهما قتيلاً، بينما يطارد توني الآخر، يبحث عنه ويواجهه والمسدس في يده. يتحداه المجرم الشرير بأن يتجرأ ويطلق النار عليه، لأنه ينظر إليه كرجل ضعيف وخائب. ثم يجاول مهاجمته بقضيب معدني، فيطلق عليه توني طلقتين في صدره قبل أن يصيبه القضيب المعدني بجرح بليغ يوقعه فاقد الوعي. يصحو توني بعد حين ملطخاً بالدماء، ويكتشف أنه تصرف بقوة غير معهودة وثأر ممن اغتصبوا وقتلوا زوجته وابنته. تتأثر سوزان بروعة رواية طليقها، وتفرح عندما تصلها رسالة على موبايلها من توني يسألها فيها أين ومتى يلتقيان. تذهب إلى الموعد المحدد في مطعم، تجلس في انتظار طليقها، تتجرع قدحين من الشراب، وينصرف الزبائن، ويكاد المطعم أن يغلق أبوابه، لكن توني لا يأتي. فقد رد الاعتبار لنفسه، ونال انتقامه. إنها نهاية مفاجئة لفيلم خاص في نوعه. هل أرسل توني، يا ترى، مخطوط روايته "حيوانات ليلية" إلى زوجته السابقة سوزان، التي تخلت عنه قبل عشرين سنة بحجة ضعفه ونقص موهبته، ليجعلها تشعر بالذنب وتندم على تركها لذلك الزوج الإنساني المبدع والمخلص والقوي؟ ربما كانت تلك هي العبرة الخفية الكامنة بين ثنايا القصص الثلاث المتداخلة لهذا الفيلم الجميل. لا شك أن إيمي آدامز واحدة من أكثر ممثلات جيلها موهبة وتنوعاً، بحيث نراها تتقمص شخصية مختلفة في كل فيلم لها، وها هي ذي تلعب دوراً محورياً في فيلم من طراز إشكالي. المدهش في أدائها بشكل خاص هو قدرتها على تجسيد شخصية سوزان في عمرين متباينين تفصل بينهما عشرين سنة. ولعل أصعب ما في هذا الدور الزمن الطويل هو أننا كثيراً ما نراها لوحدها تقرأ وتنفعل دون أن تشاركها المشهد شخصية أخرى. بالمقابل، أدى جيك غيلنهول دوراً متميزاً أيضاً في زمنين متباينين، فمرة نراه بطلاً للرواية التشويقية التي ألفها، ومرة نراه يتجسد عبر ذكريات الشباب في خيال طليقته سوزان. لكن تفاعل شخصية توني ظل كبيراً مع باقي الشخصيات الأخرى، سواء زوجته وابنته في الرواية، أم ضابط البوليس، أم المجرمين اللذين طاردهما بهدف الانتقام، أم سوزان نفسها عبر ذكريات قصة حبهما وزواجهما ضد إرادة أهلها. لا بد أن نذكر بين الشخصيات المساعدة الباقية أداء مايكل شانون لدور ضابط الشرطة الفظ والقاسي بوبي، الذي يخرج عن القانون بعد علمه بأن موته وشيك، فيأخذ مهمة تنفيذ العدالة بيده، مشجعاً توني على إعدام قاتلي زوجته وابنته بيديه. أيضاً، تستحق لورا ليني الثناء عن مشهد وحيد لها في دور والدة سوزان المتعجرفة. لعب آرام تايلور-جونسون دور الشرير الرئيسي بصورة بارعة جداً، تثير نفور واشمئزاز المشاهدين. كان أسلوبه في مقاربة الشخصية نموذجاً للتمثيل الواقعي القوي منذ أول مشهد له وهو يهين توني ويهدد زوجته وابنته على أوتوستراد السفر، وصولاً إلى مشهد مقتله في المواجهة الأخيرة وهو يحاول إهانة توني والهزء منه بينما يخطط لقتله بقضيب معدني. لعبت إيسلا فيشر دور زوجة توني الثانية في الرواية بحرارة عاطفية، وكذلك أدت إيلي بامبر دور ابنته المراهقة بكثير من العفوية، وكانت الاثنتان مقنعتين ومناسبتين لدوريهما تماماً. لفت فيلم "حيوانات ليلية" (2016) أنظار النقاد، ونال حظه من الثناء، وسيكون في عداد الأفلام المنافسة على جوائز الأكاديمية الأمريكية في حفل توزيع جوائز الأوسكار، مؤكداً ثبات مسيرة كاتبه ومخرجه توم فورد في عالم السينما عبر فيلمه الثاني بعد شهرته المدوية كمصمم للأزياء والعطور.