دمشق : نضال سعد الدين قوشحة
ذات مساء شتوي بارد ، كنت متجها بسيارة أجرة عامة ، لموعد لي ، مع الأستاذ رفيق سبيعي في بيته ، في الطريق هاتفته ، مخاطبا إياه باسمه (الاستاذ رفيق ) . بعد دقائق ، وصلت لبناء الفنانين في حي المزة ، فباغتني السائق بسؤال مباشر ، هل كنت تتصل مع رفيق سبيعي أبو صياح .
لأنني أعلم أن هنا بيته . قلت له نعم ، قال حسنا ، سلم لي عليه ، سألته هل تعرفه شخصيا ، قال : لا ، لكنني أحبه جدا ، وأعتبره أبا لي و زكرتي الشام كلها ، وأقول لأولادي بمناداته جدو أبو صياح . سررت بموقفه . أردت دفع المال والمغادرة ، فلم يقبل ، وأمام إلحاحي الشديد على الدفع ، كان تمسكه برفض الدفع أشد . بعد جهد كلفني عشر دقائق تأخير ، نزلت من السيارة دون أن أدفع لأبي محمد أجرة السيارة بعد أن رفضها . كوني ذاهب لملاقاة أبو صياح .
دخلت بيت الأستاذ رفيق متأخرا بعض الوقت ، اعتذرت ، وقلت له ما حدث . تلقى الكلام بهدوء شديد وإصغاء تام ، سحب نفسا عميقا من لفافته ، دمعت عيناه بلطف ، لم يهتم بأن يخفي ذلك ، قال لي بهدوء : هذه الحادثة أعتز بها جدا وكذلك هذا الرجل ، دفعت عمري كله لكي أكون فنانا للشعب ، ما يهمني أكثر من أي تكريم وأبعد من أي إمتياز هو محبة الناس البسطاء والشعب كله . من يومها عرفت أن أغلى ماكان يحب أن ينادى به ، لقب فنان الشعب . فليس أغلى على فنان من أن يتوج بلقب فنان الشعب . وكثر هم الذين حازوا هذه المرتبة العالية في العالم ، فأنصفتهم شعوبهم ، و سمتهم بهذه الصفة الغالية ووضعتهم في المكان الرفيع .
فنان الشعب ، يعني إيجازا ، فنانا ، تجذر في تربة وطنه ، فغدا نسغا إنسانيا ووطنيا ، يغذي حياتها في غد مأمول ومشتهى . ليس عصيا على قامة فنية بحجم الأستاذ رفيق سبيعي ، أن تتحصل على لقب فنان الشعب ، وهو الذي بذل من سني عمره في هذه المهنة الشاقة ما يزيد عن السبعين عاما . رفيق سبيعي ، فنان من الشعب ، و إليه . إمتلك بحس فطري ، جدلية فنية ، شكلت منه أيقونة في الفن ، إبتدأ مسرحيا ، وعشق الإذاعة وتفانى في العمل بها ممثلا ومخرجا . ثم عمل في التلفزيون ثم السينما ، وفي هذه جميعا كان فنان الألق ممثلا مغنيا بديعا ، يخرج من طين حواري الشام ، بنكهة أصالتها و جمالها . من يعرف رفيق سبيعي الفنان ، يلمس فيه بعدا آخر ، كان جديرا به ، بل وحريصا عليه في معظم سني حياته الفنية ، وهو أنه سجل حافل بالأحداث الفنية والتأريخ للعديد من شخوص الفن و حكاياته ، في المسرح والغناء والموسيقى وغيرهما . سبيعي ، جال مع العديد من الفرق والشخصيات الفنية العربية عديدا من الأمصار العربية ، قبل أن تفككها السياسية ، فكانت إقليما واحدا متكاملا ، فما ينشد هنا يطرب له الأهلون هناك ، فجال في سورية ولبنان وفلسطين و مصر والعراق وغيرها ، فعرف قصص الفن العربي من أصحابه ، فكان بعد سنوات عمل وكد ، سجلا عارفا ببواطن الأمور وحقائقها .
فكان في جلساته الخاصة والعامة مرجعا في الحديث عنها بعلم ولطف . من هنا ، كان برنامجه الإذاعي الهام والأعتق في إذاعة دمشق ، حكواتي الفن ، الذي قدم فيه ، الكثير من هذه الحكايات الفنية العربية والسورية اللطيفة والعميقة والطريفة . وهو الذي أمتد لسنوات طوال . و أعلم جيدا ، عن الجهد الكبير ، الذي بذله الأستاذ رفيق سبيعي ، ليكون البرنامج تلفزيونيا ، ويقدم لشريحة إضافية من الناس . كثيرا ما كنت أشاهد بنفسي ، العديد من الناس في الشوراع والمحلات العامة وهم يتابعون برنامج حكواتي الفن ، الإذاعي ، وكنت لمست تاليا ، المتابعة المتزايدة من الجمهور التلفزيوني ، الذي شاهد البرنامج بنسخته التلفزيونية عند عرضها على قناة سورية دراما . حكواتي الفن ، بالأسلوب الذي يقدمه الفنان رفيق سبيعي ، بحضوره الشعبي الطاغي ، مكسب حقيقي ، لأي مواطن سوري ، يهتم بالفن أولا يهتم به ، كونه يقدم مادة فنية بإسلوب سردي بسيط محبب وبلهجة محكية عامية يفهمها القاصي والداني.