وصول

الإصدار: العدد مائة و ثلاث و خمسون

وصول

د. رياض عصمت

 لا شك أن فيلم "وصول" (2016) للمخرج دينيس فيلينوف، من بطولة إيمي آدمز، هو أحد الأفلام الفنية المستعصية على التصنيف بدقة، والمنافسة بجدارة على جوائز الأوسكار. ظاهرياً، يخال المشاهد أن الفيلم ينتمي إلى طراز "الخيال العلمي"، ذلك لأن حبكته تتركز حول هبوط مركبات فضائية عملاقة في أرجاء مختلفة من الأرض، تتراوح بين الولايات المتحدة والصين والسودان وسواها، تحمل مخلوقات غريبة الأشكال واللغة، وعلى غاية من الذكاء. لكن الفيلم، في الواقع، يذهب أبعد من ذلك، فهو فيلم عميق المعاني، إنساني الهدف، بحيث جاء تصنيفه "دراما/غموض/خيال علمي."
يبدأ فيلم "وصول" بأستاذة لغات تدعى لويز وهي تداعب طفلتها الصغيرة، وننتقل معها وطفلتها تنمو لتصبح مراهقة فصبية، ونعلم أن لويز منفصلة عن زوجها والد ابنتها، ثم نرى الابنة الشابة مصابة بالسرطان وتموت أمام عيني أمها في المستشفى. ينتقل بما السيناريو إلى محاضرة للويز في الجامعة، وإذا بموبايلات طلابها ترن بصورة متتالية، لتطلب منها إحدى طالباتها أن تشعل جهاز التلفزيون في المدرج، وإذا بخبر ينقل هبوط مركبات فضائية عملاقة في دزينة من بلدان العالم، منها الولايات المتحدة. لا يمضي سوى وقت قليل، إلا ويأتي ضابط أسود يدعى الكولونيل ويبر (فورست ويتيكر) إلى مكتب لويز في الجامعة ليطلب منها الالتحاق بفريق متخصص لكشف طلاسم لغة تلك المخلوقات الفضائية والتخاطب معها لمعرفة هدف غزوها لكوكب الأرض. تتردد لويز في القبول، لكنها سرعان ما تستسلم أمام الأمر الواقع، وتذهب برفقة العسكريين إلى موقع المركبة. يمضي جزء من الفيلم، ولويز (إيمي آدمز) تعمل مع زميل لها يدعى إيان (جيريمي رينر) على فك أبجدية مخلوقين فضائيين عجيبين تشبه أذرعهما الأخطبوط، وتنفث دوائر متباينة الأشكال في الهواء تشكل مفردات لغة كوكبهم. تتجرأ لويز على تجاوز التعليمات الأمنية، وتخلع بزتها وقناعها الواقيين لتتواصل مع المخلوقين الفضائيين مباشرة، ثم يتبعها في ذلك صديقها إيان. تكاد الصين تعلن الحرب على المركبة الفضائية التي هبطت على أراضيها وتشرع بتدميرها، مشجعة بذلك دولاً أخرى على اتباع النهج نفسه، بما في ذلك الولايات المتحدة. لكن لويز تهيب بالعسكريين أن يتمهلوا ويتركوا لها فرصة للتفاهم مع المخلوقات الفضائية، بل تخاطر بحياتها وتذهب في إحدى وسائل نقلهم إلى داخل مركبتهم لمعرفة ماذا يريدون.  تفهم لويز أنهم أتوا إلى الأرض بهبة، وتلك الهبة هي طاقة عجيبة تمكن البشر من قراءة المستقبل ومشاهدة ما سيحدث فيه. تبذل لويز أقصى جهدها لتوقف الحرب التي توشك أن تندلع مع المخلوقات الفضائية، وتتمكن من سرقة هاتف المسؤول الأمني الأمريكي الرفيع خلسةً والاتصال برئيس الصين، وتتمكن من إقناعه بنزع فتيل الحرب والسماح للمركبات الفضائية أن تغادر بأمان وقد أدت رسالتها. فجأة، ينتقل بنا الفيلم إلى حفل دبلوماسي نرى فيه الرئيس الصيني في بزته العسكرية يدنو من لويز ويشكرها على اتصاله به في آخر لحظة قبل أن يوعز بالهجوم، لأنها أقنعته بأنها توصلت للتفاهم مع المخلوقات الفضائية المسالمة عندما كررت له آخر جملة نطقت بها زوجته المتوفاة قبيل رحيلها، وهو أمرٌ من المستحيل أن تعرفه لويز طبعاً. هنا، تأتي المفاجأة الصاعقة في الفيلم، فالحقيقة أن لويز تتزوج من صديقها إيان، وتنجب منه طفلتها التي رأيناها تنشئها في بداية الفيلم، وهي منفصلة عن زوجها. بالتالي، فإن كل ما سبق أن رأيناه من أحداث مرت بها وبابنتها في بداية الفيلم ليس ما جرى في الماضي، بل ما سيجري مع لويز في المستقبل، وقد رأته بعين خيالها من خلال الهبة التي أسبغتها عليها تلك المخلوقات الفضائية الزائرة.

 فيلم "وصول" (2016) فيلم خاص وشديد الإتقان، أسهم في نجاحه السيناريو الدقيق والمحكم للكاتب إريك هيسرر عن عمل أدبي قصير بعنوان "قصة حياتك" للمؤلف تيد تشاينغ. لا شك أن السيناريو تحرى الدقة العلمية ما أمكن في استكناه لغة بالإشارات الدخانية، ووضع مفردات لها ذات معانٍ ودلالات. جاء إخراج دينيس فيلينوف الواقعي وبالغ الإقناع (وهو مخرج فيلمي "سجناء" و"السفاح"،) ليدمج المشاهد تماماً في الأحداث، ويجعله يتوحد مع بطلة الفيلم لويز بشكل خاص، خاصة وان طبيعة التصوير توحي بأن الأحداث حقيقية وتجري فعلاُ على أرض الواقع، بل تغطى إخبارياً.  بالتالي، أسهم في ذلك الإقناع النزعة شبه التسجيلية لمدير التصوير برادفورد يونغ (المعروف من خلال فيلمي "سِلما" و"التضحية ببيدق"،) والمونتاج الذي قام به جو وولكر (المعروف من خلال أفلام "12 سنة من العبوية"، "السفاح" و"عار"،) وكذلك المؤلف الموسيقي يوهان يوهانسون. لكن محور نجاح الفيلم بلا شك تركز على الأداء المرهف والحساس للغاية الذي قدمته النجمة إيمي آدمز، وهي واحدة من الممثلات الشابات الأمريكيات المعددوات على أصابع اليد الواحدة بين ممثلات جيلها ممن يتقن فن التقمص، ويجدن تجسيد شخصيات بالغة التباين والتنوع، كما فعلت آدمز هذا العام عبر فيلم عرض بشكلٍ موازٍ هو "حيوانات ليلية". بالتأكيد، ستكون إيمي آدامز منافسة قوية جداً على أوسكار أفضل ممثلة لزميلتها ناتالي بورتمان، بطلة فيلم "جاكي" (2016). ولا بد من الإشادة بأداء طاقم التمثيل في الفيلم عموماً، بدءاً من الممثل الأسود القدير فورست ويتيكر، مروراً بالنجم جيريمي رينر في دور العالم إيان، ووصولاً إلى مايكل ستاهلبرغ في دور ضابط الاستخبارات رفيع المستوى.

    فيلم "وصول" (2016) إنجاز سينمائي خاص في نوعه، استحق تقييماً عالياً جداً بلغ 8.3 درجات، وبذلك انضم لمجموعة أفلام هامة تنهل ظاهرياً من الخيال العلمي - مثل"إنترستيلر" و"جاذبية" على سبيل المثال، لا الحصر - لكنها تتضمن معانٍ فلسفية ونفسية وإنسانية أعمق بكثير.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية