موسى الخميسي
منشورات وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما /87/
السينما هي فن الواقع حتى وإن تنوعت اتجاهاتها الفنية، لأن الواقع هو مادة التعبير السينمائي.. والسينما هي أكثر الفنون التي تنتمي إلى ما يطلق عليه الفنون الشعبية، فهي فن الشعب بالضرورة حيث شكلها السحري يستهوي المثقف مثل ما يستهوي المواطن المتلقي بكافة مستوياته الاجتماعية والثقافية. فأفلام المجتمع الأمريكي في السينما الأمريكية هي أفلام واقعية قبل ظهور اصطلاح الواقعية الإيطالية والواقعية الجديدة. والأفلام الفرنسية هي أفلام واقعية قبل ظهور السينما الواقعية في إيطاليا والأفلام العربية وكل الأفلام هي أفلام واقعية بالضرورة وحتى الأفلام الإيطالية قبل ظهور المدرسة الواقعية في السينما، فهي أفلام واقعية.
فما هي حقيقة الواقعية في السينما؟ عندما بدأت الأزمة الاقتصادية في العالم وفي أوروبا بشكل خاص وأفلست المصارف في الثلاثينات وانفجار الحرب العالمية الثانية في التاريخ الإنساني في الأربعينات تعذر على صناع السينما في إيطاليا دخول بلاتوهات السينما للتصوير والتي تشكل بنداً ثقيلاً في ميزانية الفيلم السينمائي، حيث تأجير البلاتو واستخدام الإضاءة الكبيرة التي تغطي مساحات البلاتو وكذلك أجور المهندسين والفنيين وأجور المساعدين وتأجير الكاميرات والرافعات وعربات التصوير وكل مكونات البلاتو مضافاً إليها تنفيذ الديكورات للمشاهد السينمائية.. ومشاهد السينما هي غير مشاهد الفصول المسرحية حيث ينبغي أن تتسم بالواقعية الكاملة بل الفوتوغرافية في التنفيذ بسبب حساسية الكاميرا وقرب اللقطة من عين المشاهد بسبب حجمها وحجم الشاشة السينمائية. كما وأن عدد مشاهد الفيلم تتراوح لفيلم العرض الكامل ما يقرب من مائة وخمسين مشهداً لفيلم الساعتين..
كل ذلك أصبح صعباً أمام منتج السينما بعد الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم وإفلاس المصارف التي كانت تقوم بتسليف الإنتاج السينمائي في العالم. ذلك جعل المنتج السينمائي والمخرج السينمائي والمصورين أن يفكروا بحلول اقتصادية بديلة، فجاءت فكرة التصوير في الشارع وفي البيوت.. وكانوا أثناء التصوير وبشكل خاص المشاهد الداخلية، يعانون من صعوبة في حركة الكاميرا وفي توزيع الضوء، إضافة إلى مشكلة نقاء الصوت وضمن تقنية أعوام الثلاثينات والأربعينات في عزل مؤثرات الواقع عن حوار الممثلين، ففي البلاتو السينمائي داخل الاستوديو يتوفر ارتفاع المكان بحيث يتيح حركة الكاميرا محمولة وحرة وفي اللقطات التي تنفذ في مستوى النظر يرفع جدار الغرفة كديكور وتتحرك الكاميرا على الشاريو بحرية من أي جدار مقابل للممثل كما يتوفر الصوت النقي في بلاتو معزول عن مؤثرات الواقع الخارجي..
هذا ما لم يكن ممكن التحقيق في الانتقال من البلاتو السينمائي إلى الغرف والبيوت الإيطالية، فحصلت مساومات فنية بين المبدع والواقع وإن وجدت حلول توفيقية جاءت بالضرورة على حساب القيمة الفنية للفيلم، فمثلاً استعيض عن الصوت المباشر بالدوبلاج، وصار البحث عن غرف واسعة نسبياً وبيوت فسيحة المساحة وصارت الكتابة لمثل هذه الأفلام مستندة أساساً ومحسوبة بحساب الواقع والمكان.
ودخل الناس كممثلين في تلك الأفلام. عندما ظهرت تلك الأفلام على الشاشة كان لها مذاق حسين وجمالي مختلف عن أفلام البلاتوهات داخل الاستوديو، وأظهرت قيماً جمالية أساسها الواقع كمادة مباشرة للتصوير وليس كفكرة في تصوير الواقع بمضمونه وليس بشكله.. هنا دخل شكل الواقع في القيمة الجمالية متأتية من صدق العلاقة أثناء الأداء وليس بعده حيث يصبح الصوت في عملية الدوبلاج مسموعاً وكأنه آت من ذات ثانية ليست ذات الممثل.. يسمع وكأنه آت من الخارج كادر الصورة وهذه إحدى مشاكل الدوبلاج جمالياً في دبلجة الأفلام من لغة إلى لغة أخرى. وهنا لابد من الوقوف أمام هذه الحادثة مع مخرج يعتبر من رواد السينما الواقية ومن عباقرة السينما في العالم الذي انتقل إلى الواقعية الجديدة وإلى التعبيرية وإلى سينما جديدة لها لغتها الخاصة والمتميزة.. هو المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني. ففي عام 1974 أسسنا نادياً للسينما في بيروت وكنت أحد مؤسسيه وكان من نشاطاتنا أسبوع أفلام بازوليني ووجهنا له دهوة لحضور هذا الأسبوع السينمائي.. وكنت جالساً إلى جانبه نشاهد فيلم (ميديا) وكانت النسخة المتوفرة لدينا بالإنكليزية.. كانت النسخة مدبلجة إلى الإنكليزية حيث حصلنا عليها من مؤسسة السينما السورية.. وفي الدقائق الأولى للفيلم قال نصاً (هذا ليس فيلمي) وغادر الصالة وعاد للحوار مع الجمهور بعد انتهاء الفيلم. لم يحتمل بازوليني مشاهد فيلمه ناطقاً بلغة غير اللغة الإيطالية، وتلك مفردة من مفردات جمالية الواقعية حيث اللغة ليست وسيلة اتصال ونقل رأي إنما هي أيضاً تعبير عن مضمون اجتماعي، حيث الشخصية بلغتها وبمفرداتها وطريقة أدائها تعبر عن القيمة الاجتماعية والانتماء الاجتماعي إضافة إلى أن الصوت آت من الشخصية ذاتها وليست من شخصية أخرى ممثلة ناهيك عن الإحساس فيزيائياً وتقنياً بأن الصوت آت من داخل الصورة وليس من خارجها. عندما بدأت موجة الأفلام الإيطالية التي تم تصويرها في الحياة الإيطالية بعيداً عن بلوتوهات السينما أحس الجمهور في شتى أنحاء العالم بأن سينما جديدة ظهرت في العالم بعيداً عن ديكورات الواقع وأطلق على تلك السينما (السينما الواقعية) بل حدت بالتسمية (الواقعية الإيطالية) حيث كان منطلق هذا النوع من الأفلام من إيطاليا. وقد ذهب بعض المخرجين إلى مسافات أبعد في السينما الواقعية فهم أصبحوا ملتزمين للتعبير عن مفردات الشخصية الإيطالية وطبيعة اللهجة والنطق للشخصية في الفيلم السينمائي فهم يعكسون لغة المنطقة التي تنتمي إليها الشخصية كأن تكون من الجنوب الإيطالي أو الشمال، من مدينة نابولي أو روما أو فلورنسا وهكذا من أجل إضفاء واقعية أكثر على الفيلم.. وهذا الانتماء الواقعي لم يسقط الفيلم الإيطالي بالمحلية لأن مفردات لغة التعبير السينمائي عالية ونطلق عليها وعلى الفيلم تعبير (العالمية) فالفيلم الإيطالي الذي يبحث في مشكلات إيطالية محضة تعطي أينما عرضت مضمون وقيمة ودلالة المشهد وبالتالي عموم الفيلم فنشاهده وكأننا أمام مشكلة تخصنا نحن في أي مكان في العالم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المقالات التي كتبها الناقد الصديق موسى الخميس في هذا الكتاب والتي توضح قيمة السينما كفن واقعي في كل اتجاهات السينما وذلك من خلال قراءته للواقعية في السينما الإيطالية عبر عينات الأفلام التي حلل أبعادها الفكرية والفنية الجمالية وبطريقة مركزة وتتميز بالبساطة المعبرة والبليغة في أسلوبه في كتابة النقد السينمائي. إن مقولة روسليني: "قبل كل شيء علينا أن نعرف الناس كما هم، يجب أن نحمل الكاميرا وننطلق إلى الشوارع والطرقات وندخل البيوت، إذ يكفي أن نخرج إلى أن منعطف ونقف في أي مكان ونلاحظ ما يدور بعيون يقظة لكي نخرج فيماً سينمائياً إيطالياً حقيقياً".
الفهرس
- مقدمة (بقلم قاسم حول). - مقدمة (بقلم موسى الخميسي). - من الأفضل شباباً. - أخذ روحي. - الحياة جميلة. - نسيان باليرمو. - ضريبة الحروب العمياء. - مائة خطوة. - بامورو.. يدين العنصرية في عقر دارها. - المخرج الإيطالي ناني موريتي في فيلمه (غرفة الابن). - رجل المصارف الإلهية.. قضية كالفي. - سفر اسمه الحب. - ثورة بسيارة ذات قوة حصانين. - شوكة في القلب فيلم عن مجزرة اوستيكا. - بحار الجنوب الساخر. - صياح الخير يا ليل. - فيلم درويش. - مالينا. - غداً.. فيلم إيطالي عن زلزال 1997. - منافسة خسيسة. - من الكتابة الأدبية إلى الصناعة السينمائية. - رأي المخرج بأمة الفنانة، ورأي صوفيا بابنها ادواردو. - "بينوكيو" الذي خرج من معطف فيلليني وأحلامه. - زيفيريللي يرد دين العلاقة الحميمة إلى أشهر مغنية أوبرا في التاريخ. - الخيط الأخير للأشياء. - مع دي سيكا في القلب. - خلف ستائر الحرب. - فيلم أسرار الدولة. - الأخوان تافياني.