عن موقع السينما .
أحمد زكريا .
هذه الجملة الحوارية التي ذُكرت في فيلم "المومياء"، استوقفتني قليلًا وشعرت أنها تعكس الحياة التي عانى فيها شادي عبدالسلام سواء في مرضه أو تخلي الدولة عن تمويل فيلمه "إخناتون"، الذي تمنى له أن يكون مِصريــًا خالصــًا، رغم تلقيه عروضــًا عالمية بالتمويل. قال الفنان محمد صبحي في رثائه: "إن شادي عبدالسلام تخلى عني؛ بموته، فقد كنت احتاج منه الكثير". كان لشادي عبدالسلام مواقفــًا إنسانية عديدة كما يروي صبحي، فبعد أن استقر "عبدالسلام" على اختيار "صبحي" لبطولة فيلم "إخناتون"، توطدت العلاقة الإنسانية بين الرجلين حتى رحل شادي عن عالمنا عام 1986. على غرار اسمه، كان يشدو بأفلامه في فضاءات أخرى لا يشبه أقرانه من المخرجين في صناعة السينما الروائية أو التسجيلية، كانت له آفاقه الخاصة والتي لربما ظهرت معه منذ قرر أن يترك إنجلترا قبل إكمال دراسة المسرح ويعود ليدرس الفنون الجميلة في القاهرة. أحد الأفلام التسجيلية القصيرة المعروفة باسم "الفرعون الأخير"، والتي رصدت حياة شادي عبدالسلام، وقد حاول الفيلم أن يقدم مادة أرشيفية جيدة، فنشأة شادي محمود عبدالسلام في أسرة، الأب فيها من الإسكندرية يعمل مستشارًا، والأم من صعيد مصر من محافظة المنيا تحديدًا، ربما جعلت منه مصريــًا يحمل في وجدانه ثقافة مصر من صعيدها إلى ساحلها. "قضيتي هي التاريخ الغائب أو المفقود، الناس الذين تراهم في الشوارع والبيوت والمزارع والمصانع، هؤلاء الناس لهم تاريخ". هذه إحدى العبارات التي قالها عبدالسلام، والتي قد توضح لنا همه واهتمامه والذي انعكس على كل أعماله الروائية أو الوثائقية، فمثلًا فيلم "المومياء" يروي حكاية أسرة صعيدية تمتلك أثارًا مصرية، حتى تم اكتشافها وأصبحت هي الآن "مومياوات" الدير البحري. كذلك في فيلمه "شكاوى الفلاح الفصيح"، نجح عبدالسلام في أن ينقل ليّ كمشاهد روح مصر الفرعونية بشكل رائع وفي نفس الوقت بسيط غير مُكلف إنتاجيــًا، إذ رسم لوحة فنية بديعة عن الفلاح المصري الفصيح الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ. يقول عنه مهندس الديكور صلاح مرعي: "إن شهرته جاءت كمصمم أزياء ومهندس ديكور" ويضيف أن أول عمل لشادي كان في أغنية في فيلم "حكاية حب"، ثم شارك بعدها في عمل ديكورات أفلام عديدة مثل "الناصر صلاح الدين" و"رابعة العدوية" و"ألمظ وعبده الحامولي". ولهذا يمكن أن نقول إن عمل عبدالسلام في الديكور والأزياء جعله قادرًا على رسم مشاهده بشكل كامل على الورق قبل أن يتم تصويرها ولعل هذا يبدو واضحــًا عندما نرى تجهيزاته لفيلم المومياء وكيف رسم الشخصيات والتكوين الخاص بالمشاهد وشكل الملابس. "هل أقول لك سرًا.. هل تعلم أنني صممت أول بدلة رقص لـ تحية كاريوكا، هذه السمراء الجميلة، أحس فيها بأصالة تمتد إلى قرون الماضي وزهوه"، هكذا قال شادي عبدالسلام لأحد الصحافيين، كان لتميزه في مجال الديكور وتصميم الأزياء علامة واضحة بين أبناء جيله، مما أتاح له الفرصة للتعاون مع كبار المخرجين في العالم في فترة الستينات مثل مخرج فيلم "كليوباترا" جوزيف مانكيفيتس والمخرج روبرتو روسيليني، أحد رواد الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، والذي كان يعمل على برنامج في هذه الفترة عن تاريخ مصر القديم. تعتبر سينما شادي عبدالسلام سينما حافظة للتاريخ، تحمل بين طياتها عبقرية السينما التسجيلية وسحر السينما الروائية، فعندما تشاهد فيلم "المومياء"، تشعر بهذا الجلال في الأداء التمثيلي لأبطال الفيلم، فمثلاً القديرة زوزو حمدي الحكيم، بجملها القصيرة لكنها نجحت بشدة في أن ترسم صورة المرأة المصرية في الصعيد، المرأة القوية التي تحترم التقاليد وفي نفس الوقت تعرف متى تحصل على حقوقها. كما أن الصورة السينمائية المبهرة في الفيلم كانت تحمل جمال الصورة الوثائقية قبل أن تكون مشهدًا في فيلم روائي. وقد حصل فيلم "المومياء" على ثناء دولي كبير وحصد عدة جوائز مثل جائزة جورج سادول، وجائزة النقاد في مهرجان قرطاج. آفاق صنعها الشادي في فيلمه "آفاق" فالفيلم ذو الأربعين دقيقة لا حديث فيه طيلة خمس عشرة دقيقة ثم تبدأ موسيقى بموشح أندلسي، طيلة هذا الوقت لا تشعر بأي ملل لأن الشعور الذي ينتابك أن الصورة المنقولة لك هي محاولة لحفظ التاريخ بتفاصيله الجمالية. الفنون والتاريخ والثقافة التي حاول شادي عبد السلام أن ينقلها خلال هذا الفيلم دون أن ينبس أحد بكلمة حوار طيلة عشرين دقيقة حتي يظهر محمد صبحي في جزء من مسرحية هاملت في محاولة واضحة من شادي لتوثيق ورشة شابة تعرض كلاسيكيات الأدب العالمي. عبقرية هذا الفيلم تكمن في نقله لتفاصيل أماكن وأشياء وحرف ربما لم تعد تراها أعيننا كما لم تعد محل اهتمامنا، فنقله لصورة وكالة الغوري ومدرسة الحرانية لصناعة النسيج وأوركسترا القاهرة السيمفوني ودار الكتب المصرية. تفاصيل مختلفة عن تلك التي نراها الآن مثلًا من خلال عرض التنورة المبهر في وكالة الغوري، صور لا نراها في زيارتنا لدار الكتب، فيلم حافظ على تاريخ مصر في كيانات اقترب عمرها من الخمسة قرون بل أنه حافظ على بهاء هذه الأماكن بشكل قد لا نشاهده الآن، يروي الفنان محمد صبحي عن هذا الفيلم "شادي عبدالسلام لم يرغب في البداية أن يقوم بإخراج فيلم آفاق"، لأنه لم يكن يريد أن يصنع أفلامــًا من أجل المال، إلا أنه بعدما وجد فكرة للعمل وافق على إخراجه، ويضيف صبحي أن عبدالسلام أوجد له دورًا في الفيلم كي يساعده في إيجاد المال لإتمام خطوبته. قال عنه أحد تلاميذه: "علّمنا شادي أول ما علّمنا أن نحيا بالحضارة المصرية القديمة، وأننا امتداد لها نحملها في داخلنا، عاش فعلاً بيننا كأحد الفراعنة العظماء ولم يتخل لحظة في حياته عن هذا الاعتقاد". كان مشروعه الأبرز قبل وفاته هو فيلم "إخناتون"، الذي يروي عنه أنه استغرق في كتابة سيناريو الفيلم ثلاث سنوات ثم قام بتغييره بعد حرب أكتوبر، إذ كان المشروع في ذهنه قبل الانتهاء من فيلم "المومياء". كانت مشكلة شادي مع الفيلم إنتاجية، لم تقبل الجهات المصرية تمويله وعرضت عليه جهات عالمية إنتاج الفيلم لكنه رفض أن يكون هناك أي مكون أجنبي فيه. مع عام 1984 أصيب شادي بمرض سرطان البروستاتا، و في هذه المرحلة كانت الدولة قد قررت دعم الفيلم، ومع استعداد عبدالسلام للتصوير واستعادته لصحته، توقفت الدولة عن دعم الفيلم بحجة مرض المخرج. رحل شادي عبدالسلام عن عمر يناهر 56 عامــًا وفي ذهنه ثلاث مشروعات فنية لم يكملها، والتي أطلق عليها اسم ثلاثية "الطريق إلى الله"، المكونة من ثلاثة أفلام تسجيلية قصيرة "الحصن" و"الدندراوية" و"مأساة البيت الكبير، إخناتون"، رحل الـُمــتبتلُ في محرابِ الفراعنة في سكونٍ وشموخٍ لا يختلفُ كثيرًا عن أسلافه الذين عاش حياته محاولاً أن ينقل لنا حياتهم عبر عيون السينما.
* بعض المصادر التي تم الرجوع إليها في كتابة هذا المقال: فيلم تسجيلي باسم الفرعون الأخير عن حياة شادي عبد السلام، حلقة نقاشية مع محمد صبحي عن الراحل شادي عبد السلام في متحف شادي عبد السلام بمكتبة الإسكندرية، أفلام شادي عبدالسلام: المومياء، شكاوى الفلاح الفصيح، آفاق.. كل هذه الفيديوهات موجودة على موقع YOUTUBE