د. رياض عصمت
يبدو أن السينما البوليوودية تنتقل من نجاح إلى آخر، وأحدث نجاحاتها في العام 2016 هو فيلم "مصارعة" Dangal، الذي حظي بإقبال جماهيري ساحق في الهند، إضافة إلى عرضه في الولايات المتحدة وأوربا. "مصارعة" (2016) فيلم يعتمد على قصة تسجيلية عن بطل المصارعة الوطني ماهافير سنغ فوغات، الذي اضطرته ظروف عائلته المادية إلى اعتزال المصارعة وهو في أوج تفوقه، فظل يحلم أن ينجب ابناً يدربه حين يكبر ليجعله يفوز للهند بأول ميدالية ذهبية دولية في تاريخها. يروي أحداث القصة ابن أخ المصارع المعتزل. يتزوج ماهافير في قريته بالالي من امرأة طيبة، لكنها لا تنجب له صبياً، رغم جميع الأدعية والحجب ووسائل الطب الشعبي. هكذا، يرزق بأربع بنات على التوالي، فيشعر بالأسى لضياع حلمه، يطوي الميدالية التي حصل عليها، ويقلع عن ارتياد حلبة المصارعة المحلية. ذات يوم، بعد أن تصل ابنتاه (جيتا) و(بابيتا) إلى سن المراهقة، يعود ذات مرة إلى البيت ليجد عائلة جيرانهم تشكو من أن البنتين ضربتا ضرباً مبرحاً شابين أساءا إليهما بالكلام. هنا، تخطر على بال ماهافير فكرة جريئة وغريبة وجامحة: لماذا لا يقوم بتدريب ابنتيه على المصارعة لتحقق إحداهما حلمه في نيل أول ميدالية ذهبية دولية للهند؟ يغير الأب حياة ابنتيه كلياً، ويفرض عليهما برنامجاً صارماً للغاية من الحمية والتدريب الجسدي القاسي منذ ساعات الفجر الأولى، ينشئ حلبة من الرمل ويجبر ابن عمهما (راوي القصة) على التدرب معهما. تحاول الفتاتان التهرب، وتشتكيان من الإرهاق ونمط الحياة القاسي الذي يفرضها عليهما والدهما، لكن إصرار الأب، وإدراكهما التدريجي أنه يفعل ذلك بدافع اهتمامه بهما، يجعلهما تتقدمان بحيث تهزم الكبرى منهما ابن عمها بعد سلسلة هزائم. تدريجياً أيضاً، تتحول سخرية مجتمع القرية، وتهكم زميلات جيتا وبابيتا على شعرهما المقصوص كشعر الصبيان، إلى إعجاب متصاعد عندما تخوض الكبرى منهما النزال في مسابقة للفتيان، فتهزم بصعوبة أول مرة، ثم تفوز بعدها مرات عديدة، وتتجاوز شهرتها القرية إلى المقاطعة، فالدولة باسرها. يأخذ الأب ابنته لتلتحق بالمعهد القومي للرياضة. هناك، لا يأبه به أو بتكنيكه المدرب الجديد، بل يطلب من الفتاة وزميلاتها نسيان أي شيء تعلموه من قبل، والخضوع التام لتوجيهاته. عندما تزور جيتا بيت والدها في القرية، يلاحظ الأب تبدل نظام حياة ابنته وتمردها على ما لقنها إياه، فيتحداها على الملأ أن تواجهه في حلبة التدريب الرملية المتواضعة. بعد صراع عنيف، تتمكن الابنة أخيراً من التغلب على أبيها بغضل التدريب الذي تلقته. تلومها أختها بابيتا بشدة على تصرفها، وتقول لها إن التكنيك الذي لقنه والدهما لهما ليس خاطئاً، وإنما دب الوهن في جسد أبيهما بسبب تقدم عمره ومرضه. تعود الابنة الكبرى جيتا إلى المعهد، وفي أول مواجهة دولية تخسر أمام بطلة أوستراليا. تنضم الأخت الصغرى بابيتا إلى معهد الرياضة، وتنصح أختها الكبرى بالتصالح مع أبيهما الذي يحبهما بحيث كرس كل حياته من أجل تفوقهما ونجاحهما. بالفعل، تتلفن جيتا له وتتصالح معه، فيسافر مع ابن أخيه ليدربهما سراً خارج إطار المعهد بعيداً عن رقابة المدرب المغرور. تنكشف الأمور، وتهم الإدارة بفضل الطالبتين، فيواجه الأب المديرين راجياً مسامحة ابنتيه على خطئه واستمرارهما بعيداً عن تدريبه. يصل الفيلم إلى ذروته عندما تقاوم دورة ألعاب الكومنولث في عاصمة الهند نيو دلهي في عام 2010، وتشارك جيتا وبابيتا في مسابقة المصارعة الدولية تلك. يوجه الأب ابنته جيتا من مدرجات المتفرجين، معارضاً توجيهات مدربها الذي لا يطمح لأكثر من ميدالية برونزية، ويدفع ابنته للعب الهجومي تارةً، والدفاع تارةً أخرى، فتنتزع فوزاً صعباً وراء آخر، وتصل إلى المباراة النهائية مع بطلة أوستراليا القوية التي سبق أن هزمتها هزيمة ساحقة. قبيل تلك المباراة، يتمكن المدرب الرسمي من خداع الأب وحبسه في غرفة مقفلة ليخلص من منافسته العلنية له، فتواجه جيتا غريمتها وحيدة دون توجيه، وتكاد أن تخسر المباراة المصيرية. لكنها تتذكر في اللحظات الحرجة نصائح أبيها لها بألا تعتمد سوى على إحساسها وحده، فتقوم بحركة جريئة في الثواني الأخيرة من المباراة لتهزم المصارعة الأوسترالية فوزاً مفاجئاً، وتفوز بأول ميدالية ذهبية للمصارعة في تاريخ الهند. يسمع الأب في الغرفة التي حُجز فيها موسيقا النشيد الوطني الهندي، فيعلم بفوز ابنته، وتسيل الدموع على خديه. يتمكن ماهافير من الخروج إلى الملعب، فيرى الإعلاميين محتشدين حول ابنته المنتصرة ومدربها بكاميراتهم، لكن جيتا ما أن ترى أباها حتى تترك الصحفيين والكاميرات والمدرب المدعي، وتهرع إلى أبيها لتقدم له الميدالية الذهبية بكل تواضع وامتنان، فيقلدها إياها من جديد ودموع الفرح تملأ عينيه، قائلاً لها بفخر: "أحسنت." أما بقية القصة الحقيقية التي لم نرها على الشاشة فهي أن بابيتا فازت أيضاً في بطولة الكومنولث نفسها بالجائزة الفضية عن وزن آخر. منذ ذلك الحين، شاركت الأختان في أكثر من بطولة كومنولث وأولمبياد. خسرتا تارة، وربحتا تارة، ونالتا عدة ميداليات ذهب وفضة وبرونز. الأطرف هو أن الأخت الثالثة الأصغر، ريتو، دخلت أيضاً ميدان المصارعة تحت إشراف وتدريب أبيها، ونالت المدالية الذهبية للهند في ألعاب الكومنولث لعام 2016.
فيلم "مصارعة" (2016) إنجاز كبير للنجم الهندي أمير خان، الذي أسهم في إنتاج الفيلم، بحيث أن زميله النجم الشهير سلمان خان صارحه بأن هذا الفيلم تفوق على فيلمه "سلطان"، الذي يلعب فيه دور مصارع أيضاً. اختار أمير خان المخرج نيتيش تيواري لإخراج الفيلم والإسهام في كتابة السيناريو مع بيوش غوبتا، شرياس جاين وميخيل ميهوراترا. كما جلب مديراً لتصوير الفيلم المصور القدير ستياجيت باندي، والمونتير بالو سالوجا، وبالأخص الملحن بريتام تشاكرابورتي، الذي وضع ألحاناً رائعة. رغم امتداد الفيلم زهاء ساعتين وأربعين دقيقة، لا يشعر المشاهد بالملل إطلاقاً وهو يتابع Dangal ، بل يضحك من أعماقه حيناً، ويذرف دموع التأثر حيناً آخر، وهو نادراً ما يحدث مع معظم الأفلام الأمريكية والأوربية. تلك هي الميزة التي امتلكتها السينما البوليوودية، وجعلتها نقطة قوتها وسر رواجها حتى على المستوى العالمي. فيلم "مصارعة"، بلا شك، فيلم صعب للغاية على صعيد الأداء التمثيلي، إذ اقتضى من النجم أمير خان تدريباً شاقاً لساعات عديدة كل يوم على مدى أشهر طويلة. لذلك، قام بتصوير مشاهد الجزء الأخير من الفيلم حين يبدو مترهل الجسم، بارز الكرش، قبل أن يمارس التدريب الرياضي القاسي ليكتسب قواماً رياضياً متناسقاً إنه لتصوير مشاهد الشباب. حضور أخاذ لممثل متمكن لم يكتف بالنجاح التجاري الخالص في أفلام من طراز "3 مجاذيب"، بل أقدم على مغامرة إنتاج وبطولة فيلم ذي قصة تسجيلية وطنية جادة عن بطل المصارعة الهندي ماهافير سنغ فوغات وابنتيه الرائعيتن. لم يكن الجهد الذي بذلته الممثلات الأربع اللواتي مثلن دوري جيتا وبابيتا في مرحلتين بأقل من جهد أمير خان، إذ أن الشابتين الصغيرتين زايرا وسيم (جيتا) وسوهاني بهاتانغار (بابيتا) بديتا في منتهى الإقناع، وجمعتا بين الطرافة والمأساة. أما عندما كبرت الشابتان وصارتا صبيتين ناضجتين، فأدت الممثلة فاطمة سنا شيخ دور (جيتا) بحضور لافت، منتقلة بين مشاعر متباينة تراوحت بين التأقلم التدريجي مع جو المعهد الرياضي وتعليمات المدرب الجديد وصولاً إلى الذروة الدرامية بهزيمتها لوالدها في المصارعة، وبين ندمها اللاحق على فعلتها المتهورة تلك وعودتها للإيمان بفضله في تلقينها التكنيك المناسب لها لتحقق الحلم المنشود بنيلها الميدالية الذهبية الأولى للهند في بطول دولية. جارتها إلى حد ما جيد الممثلة سانيا مالهاترا في دور (بابيتا)، والتي ظلت مخلصة لأبيها، مؤمنة بتوجيهه حتى الرمق الأخير. من الجدير بالذكر أن الممثلات الشابات خضن تدريباً قاسياً ومجهداً بالفعل طيلة 6 – 7 أشهر على فنون المصارعة، بحيث أديتا معظم المشاهد بأنفسهن فعلاً. إضافة إلى هؤلاء الفتيات الموهوبات الأربع، حرص المخرج على استقطاب طاقم تمثيل محترف، تقدمته الممثلة القديرة ساكشي تانوار في دور الزوجة والأم، والممثلان آبرشاكتي كورانا في دور ابن العم (كومار) مراهقاً، في حين لعب ريتويك ساهور دوره وهو شاب. أما دور المدرب في المعهد الرياضي، فأسند إلى ممثل برع في تجسيد شخصية سلبية هو جيريش كولكارني، الذي استطاع إثارة نفور المشاهد من الشخصية. فيلم "مصارعة" (2016) واحد من أمتع الأفلام مشاهدة، لأنه يمزج الضحكة بالدمعة، ويحرك مشاعر وطنية وإنسانية في النفس بغض النظر عن البيئة الجغرافية. إنه متعة للنظر والروح، ولا شك أنه بدأ يقطف ثمار ما زرع عبر نجاح ساحق داخل الهند وخارجها، بحيث نال تقييماً قدره 9.2 درجات، ربما كانت من أرفع ما ناله فيلم هندي حتى الآن.